افتتاحية كامل مروّة في جريدة الحياة عدد 3 أيلول 1948: هل سمعتم ببليدا؟

افتتاحية كامل مروّة في جريدة الحياة عدد 3 أيلول 1948: هل سمعتم ببليدا؟

كلمتي هذه الى الذين يبتسمون ابتسامات صفراء عندما يسمعون بالخطر الصهيوني على لبنان، والى الجماعات المعلومة التي تشعر بأن فلسطين في الصين.

هل قرأتم أيها السادة أمس نبأ الهجوم اليهودي على بليدا؟

أتعرفون أن بليدا قرية لبنانية،وأنها مفتاح التوغّل الى الجنوب؟ هل أدركتم بعد أن الخطر الجاثم على حدودنا يستطيع أن يضربنا في الصميم في أية ساعة يشاء؟

أجل، ان ابن بيروت وطرابلس واهدن وبكفيا وزحلة ينعم بالطمأنينة في عقر داره. انه لم يضطر الى هجر بيته وأرضه كما فعل ابن بليدا وعيترون

وعديسة. انه لا يسمع دوي القنابل في الصباح والمساء. انه ينام آمناً، ولا يعرف معنى التشرد والحرمان. أجل، ان العدو بعيد عنه بضعة عشرات من الكيلومترات فلا يشعر بالحرب أو بخطرها. ولكن، أين هي العاطفة الوطنية؟ أليست بليدا قطعة من هذا الوطن الذي يزعمون أنهم يفتدونه بكل غال ونفيس؟

لقد حان الوقت لأن يشعر اللبنانيون بأن لبنان هو في خط النار، وأنه الهدف الأول للضربة الصهيونية القادمة. وهذه المعلومات الواردة من مختلف المصادر تؤكد ذلك. كما أن الضربات التي وجهها العدو الى أراضينا في أواخر أيار الماضي (مع اندلاع حرب فلسطين) وحالت الرقابة يومئذ دون التحدث عنها،

والاعتداءات التي تتكرر بصورة لا تنقطع على حدودنا، نذيرة بما يضمره العدو.

جميل أيها السادة أن نتغنّى بكياننا، وأن نتحدى السماوت السبع من أجل حدودنا. ولكن أجمل ما في ذلك أن تعربوا عن هذه العاطفة لا بالتصريحات والمقالات، بل بمشاطرة اخوانكم في هذا الكيان في السراء والضراء وحين البأس.

ان الخطر الجاثم على رأس الجنوب يحتاج الى جهد عسكري شامل لمجابهته. فاذا ما قنعنا من العاطفة الوطنيّة بالنوم على الحرير، بينما ينام ابن الجنوب على النار والحديد، فاننا نوقّع بأنفسنا صك انتحارنا وانتحار لبنان.

خوارزميات القتل: صراع بلا بصمات

خوارزميات القتل: صراع بلا بصمات

في عالم تتغير فيه موازين القوة كل يوم، لم تعد المعارك تُحسم بالصواريخ ولا بالجنود، بل بالمعادلات التي تُكتب على شاشات الحواسيب. إسرائيل أدركت ذلك مبكرًا، فحوّلت الذكاء الاصطناعي من أداة بحث علمي إلى سلاح استراتيجي، يسبق الرصاصة، ويقرر مصير الهدف، قبل أن يعرف أنه في دائرة الخطر.

حين تلتقي قوة الخوارزمية مع خبرة الموساد، يتحول العمل الاستخباراتي من مطاردة المعلومة إلى التحكم في زمنها ومسارها. لم تعد المسألة قتل عدو أو إفشال عملية، بل إعادة تصميم بيئة الصراع، بحيث لا ينجو من عين المراقبة أحد، وبحيث تُصنع القرارات في زمن أقرب إلى اللحظة الفعلية.

هنا، لا نتحدث عن تكنولوجيا على هامش المعركة، بل عن قلب جديد لقوة إسرائيل، يمتد من ساحات الحروب في غزة ولبنان، إلى المختبرات التي تضمن لها البقاء في قمة سلم الذكاء الاصطناعي عالميًا. إنها قصة عن مستقبلٍ، تصنعه إسرائيل اليوم، وتترك فيه البقية يلهثون وراءها.

من التجريب إلى الريادة… كيف دخل الذكاء الاصطناعي عمق القوة الإسرائيلية
لم تبدأ إسرائيل رحلتها مع الذكاء الاصطناعي من فراغ، بل من قاعدة تكنولوجية متينة، بُنيت على مدى عقود، وصناعة برمجيات وأمن سيبراني، تُعد من الأكثر تطورًا في العالم.

منذ أوائل الألفية، بدأت وحدات الاستخبارات، وعلى رأسها الوحدة 8200، في دمج تقنيات التحليل الآلي مع أنظمة المراقبة. لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت بعد عام 2018، عندما قررت الحكومة الإسرائيلية إدراج الذكاء الاصطناعي كركيزة استراتيجية للأمن القومي، وأطلقت استثمارات ضخمة في البحث والتطوير.

على المستوى الدولي، باتت إسرائيل تصنف ضمن أعلى عشر دول عالميا في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وفقا لمؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي متقدمة على دول أوروبية كبرى، رغم صغر مساحتها ونشأتها وعدد سكانها. ويرجع ذلك إلى مزيج فريد، يجمع بين امتلاك بيئة، تحتضن الشركات الناشئة العالية الابتكار (أكثر من 1500 شركة)، ودعم حكومي مباشر للبحث والتطوير، وروابط وثيقة مع شركات التكنولوجيا العملاقة التي تملك مراكز أبحاث عملاقة في إسرائيل مثل، مايكروسوفت وأنتل وجوجل وغيرها، والتي تعمل على نقل التقنيات المدنية إلى الاستخدام العسكري والاستخباراتي، فيما يعرف بالنقل ثنائي الاستخدام.

بهذا الموقع، لم تعد إسرائيل مجرد مستخدم للتكنولوجيا مثل غيرها من دول الجوار، بل أصبحت مُصدّرًا عالميًا للأدوات التي تعيد رسم حدود القوة والسيطرة، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في أسواق أمنية حول العالم.

من الشيفرة إلى الرصاصة… رحلة الذكاء الاصطناعي في قلب القوة الإسرائيلية
في مطلع الألفية، كانت إسرائيل تضع حجر الأساس لمشهد تكنولوجي جديد. لم يكن الأمر آنذاك أكثر من مختبرات بحث في الجامعات ومجموعة من الشركات الناشئة في تل أبيب وحيفا، لكن خلف الأبواب المغلقة، كانت الوحدة 8200 ذراع الاستخبارات الالكترونية، وهي بداية التحالف بين الخوارزميات والعمل الاستخباراتي. كان الهدف بسيطا جدا في بدايته: “جمع أكبر قدر من البيانات وتحويله لمعلومات”.

خلال العقد الأول، انحصر الذكاء الاصطناعي في دور المساعد الصامت، يُحلل المكالمات الملتقطة، ويصنّف الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية. لكن مع حلول عام 2010، بدأ الطموح يتغير. صارت الخوارزميات قادرة على تعرّف الوجوه في الصور الجوية، ورسم خرائط تحركات الأفراد في مدن مكتظة مثل غزة، بدقة لم تكن ممكنة قبل سنوات.

لتأتى نقطة التحول مع عملية الجرف الصامد في عام 2014، حيث استخدمت إسرائيل لأول مرة أنظمة التحليل للبيانات الضخمة لتسريع اختيار الأهداف، وإن كان الاعتماد على القرار البشري، لايزال قائما. ما خرجت به المؤسسة العسكرية من تلك التجربة، هو قناعة أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تقليص الزمن، اتخاذ قرار الضربة من أيام إلى ساعات، وربما إلى دقائق.

ما بين 2015 و2018، تحولت القناعة إلى خطة. أُنشأت أقسام متخصصة داخل الجيش والموساد، وتدفقت الاستثمارات الحكومية والخاصة على مشاريع تطوير خوارزميات مخصصة للأمن. هذا أيضًا كان عصر تصدير التكنولوجيا، إذ بدأت إسرائيل تبيع برمجياتها للعالم، وأبرزها برنامج بيجاسوس الذي حوّل الهاتف الذكي لأي شخص إلى نافذة مفتوحة للأجهزة الإسرائيلية، دون أن يشعر. Pegasus.

عام 2019، كان بداية الاندماج العلني بين الذكاء الاصطناعي والعمل المخابراتي. ثم في 2021، وأثناء جولة القتال مع غزة، أعلن الجيش الإسرائيلي، أنه خاض أول حرب مدارة بالذكاء الاصطناعي في غرف العمليات، كانت أنظمة مثل جوسبل والكيميائي تعمل كعقول رقمية، تلتقط البيانات من الميدان، تحللها وتخرج قائمة أهداف جاهزة وتوصيات بالوقت الأفضل للهجوم.

لكن ما كان في 2021 طفرة تقنية، صار في 2023 و2024 آلة قتل مؤتمتة بالكامل. تسريبات من صحافة استقصائية، كشفت عن برامج مثلا “لافندر وغيرها، تكشف من خلال تغذيتها من قواعد بيانات ضخمه عن كل فرد في مواقع الصراع من رقم هاتفه، وحتى نمط نومه، لتصنفه تلقائيا كهدف أو لا…

ثم جاءت الاغتيالات الدقيقة لتظهر مستوى آخر من هذا الدمج بين التقنية والاستخبارات. اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده أواخر 2020، عبر مدفع رشاش ذكي يعمل بالذكاء الاصطناعي، ويتلقى أوامره عبر الأقمار الصناعية، كان إعلانًا واضحًا: إسرائيل لم تعد تحتاج إلى عملائها على الأرض لتنفيذ أخطر عملياتها.

اليوم، في 2025، لم يعد الذكاء الاصطناعي عنصرًا مساعدًا في المعركة، بل صار العمود الفقري لآلية اتخاذ القرار العسكري والاستخباراتي. في أي مواجهة– سواء كانت حربًا شاملة أو مناوشة محدودة– يمكن لإسرائيل أن تحلل بيانات ملايين الأشخاص في المنطقة لحظيًا، وتحوّل المعلومة إلى ضربة في دقائق.
إنه انتقال من زمن الحرب التقليدية إلى زمن الخوارزمية القاتلة، حيث تُحسم المعركة، قبل أن يدرك الطرف الآخر، أن اللعبة بدأت.

أدوات إسرائيل في الذكاء الاصطناعي… من الكود إلى الهدف
لم يكن صعود إسرائيل في ساحة الذكاء الاصطناعي مجرد نتيجة للبحث الأكاديمي أو الشركات الناشئة، بل جاء عبر أنظمة وأدوات محددة، صُممت لتخدم غاية واحدة تحويل المعلومة إلى قوة ميدانية فورية.

في قلب هذه الأدوات يبرز برنامج لافندر الذي ظهر اسمه في تسريبات صحفية، كما ذكرنا كأحد أخطر أنظمة الاستهداف التي استعملتها إسرائيل في غزة. بخلاف ذلك برامج لتحديد اللحظة المثالية للضربات، ومتابعة حركة الهدف لحظيا عبر إشارات الهاتف وكاميرات المراقبة لمراقبة التوقيت الملائم لضمان إصابة الهدف في المكان الأمثل. وبالطبع كل هذه البرامج، يجاورها برامج تجسس أشهرها بيجاسوس الذي تم تطويره ليصبح أداة اختراق للهواتف الذكية دون علم أصحابها، ويجمع كل ما في الجهاز من معلومات بدقة متناهية.

ولا يمكن إغفال عمليات الاغتيال عن بعد عالية التقنية التي برزت في عدد من العمليات منها عمليات البيجر الشهيرة في لبنان التي أطاحت برجال حزب الله.

وأخيرًا، تظل حرب الوعي جبهة مفتوحة، تستخدم فيها إسرائيل جيوشًا من الحسابات الوهمية، وتحليل النقاشات على وسائل التواصل بخوارزميات متقدمة، ونشر مواد مُفبركة بتقنيات Deepfake لتشويه سمعة الخصوم أو زرع الانقسام في مجتمعاتهم.

حين تتأرجح الخوارزمية بين العجز والاختراق
رغم أن إسرائيل تتصدر سباق الذكاء الاصطناعي في المنطقة، فإن تجربتها مع حماس في غزة، كشفت أن التفوق التكنولوجي ليس عصا سحرية. فالبيئة الحضرية المكتظة والأنفاق العميقة، تحوّل أحدث الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة إلى عيون عمياء، فيما تُبقي تكتيكات حماس اتصالاتها الرقمية نادرة أو معدومة، وتزرع بيانات مضللة، تربك الخوارزميات. حتى حين تقترب إسرائيل من خيوط، تقود إلى الأسرى، تعوقها حسابات سياسية وخطر قتل الرهائن، فيبدو المشهد، كأنه عجز، رغم أن العائق ليس دائمًا تقنيًا.

لكن الصورة تختلف تمامًا على جبهات أخرى. في لبنان، نفّذت إسرائيل ضربات نوعية قلبت معادلة الردع مع حزب الله، مثل تصفية القيادي فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، وتدمير معسكرات ومخازن سلاح في البقاع، وصولًا إلى اغتيالات داخل بيروت نفسها. أما مع إيران، فقد امتد الذراع الإسرائيلي إلى قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتل قيادات بارزة من الحرس الثوري، بل وحتى اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران. هذه العمليات لم تكن وليدة صدفة، بل نتاج منظومة دمجت بين جمع الإشارات والصور الجوية ونمط حياة الهدف، ثم تحليلها بخوارزميات متقدمة، تقلّص زمن المعلومة إلى الضربة، ما جعل النتائج في هذه الساحات مدمّرة واستراتيجية..

من الميدان إلى القرار… كيف غيّر الذكاء الاصطناعي شكل الصراع
لم تعد المواجهة مع إسرائيل مسألة سلاح في مواجهة سلاح، بل صارت سباقًا مع آلة، تستطيع أن تسبق القرار البشري بخطوات. في ساحات القتال، تحوّل زمن الانتقال من المعلومة إلى الضربة من ساعات وأيام إلى دقائق وربما ثوانٍ. في غزة، أصبح القائد الميداني أو موقع إطلاق الصواريخ هدفًا، يتم تحديده وتنفيذه فورًا، وكأن الخوارزمية كانت تنتظر اللحظة المناسبة منذ البداية. وفي سوريا، كثيرًا ما استُهدفت مخازن أو قوافل أسلحة، قبل أن تكتمل عملية النقل. حتى في العمق الإيراني، نُفذت عمليات اغتيال دقيقة دون أن تترك أثرًا يمكن تتبعه.

لكن تأثير الذكاء الاصطناعي امتد إلى السياسة. إسرائيل توظف هذه القدرات كأداة ردع استراتيجية، فمجرد معرفة الخصم أن هناك آلة قادرة على رصده وتصفيته في أي وقت، يخلق توازن رعب جديد. هذه السمعة التقنية تمنح إسرائيل أوراقًا إضافية على طاولة التفاوض، وتدفع بعض الأطراف إلى تجنب التصعيد أو البحث عن تسويات.

هذا التفوق خلق فجوة واضحة بين إسرائيل وجوارها. فبينما ما زالت مصر والأردن تستخدمان تقنيات مستوردة في نطاق محدود، ويركز حزب الله على الردع الصاروخي، تحاول إيران مجاراة التطور الإسرائيلي، لكنها تصطدم بعقوبات ونقص في المعدات.

ورغم قوة هذه المنظومة، إلا أن استخدامها يثير جدلًا قانونيًا وأخلاقيًا. من يتحمل المسئولية، إذا أخطأت الخوارزمية واستهدفت مدنيين؟ وهل يمكن اعتبار قتل شخص بناءً على “احتمال” سلوكه المستقبلي جريمة حرب؟ منظمات حقوقية كبرى حذرت من غياب المراجعة البشرية، لكن إسرائيل تبرر ذلك بضرورات السرعة والحسم.

ولم تكتفِ إسرائيل بالسيطرة على الميدان، بل امتدت حربها إلى العقول. عبر حسابات وهمية ومحتوى مُصمم بخوارزميات متقدمة، تشيع الخوف وتزرع الشك، فتربك المجتمعات المستهدفة وتضعف ثقتها بقياداتها. وهكذا، أصبح الدمج بين الذكاء الاصطناعي والموساد تحولًا كاملًا في قواعد الصراع، حيث يمكن لإسرائيل أن تحسم المعركة على الورق، قبل أن تبدأ في الميدان.

المحور الخامس: الأمن القومي العربي في مواجهة الخوارزمية الإسرائيلية
لم يعد الخطر على الأمن القومي العربي مجرد طائرات أو وحدات خاصة، بل أصبح الخطر في أن تتحول حياة ملايين العرب إلى بيانات مخزنة على خوادم تُحللها خوارزميات إسرائيلية. هذه القدرة على جمع المعلومات وتحليلها وتحويلها إلى أداة استهداف لحظي تعني أن زمن التحضير والإنذار المبكر يتلاشى.

إسرائيل لا تحتاج إلى حشد قوات؛ لتعرف ما يدور في عمق العواصم العربية. شبكات المراقبة الرقمية وبرامج التجسس توفر لها صورة عن التحركات العسكرية والاقتصادية والسياسية والمزاج الشعبي. هذه المعرفة تمنحها أفضلية مزدوجة: الردع المباشر والتدخل غير المباشر.

الأخطر أن هذا التفوق يمتد إلى تهديد الاستقرار الداخلي. فالهجمات السيبرانية وحملات التضليل قادرة على إرباك الرأي العام وإشعال خلافات داخلية، هذا يعني أن خطوط الدفاع التقليدية لم تعد كافية. التحدي الآن هو بناء قدرة على الحماية الرقمية تضاهي قدرة الخصم.

في المستقبل، إما أن تواصل الدول العمل الفردي فتتسع الفجوة، وإما أن تبني تحالفًا إقليميًا للأمن الرقمي، أو تلجأ لتعاون محدود مع إسرائيل، وهو مسار يحمل مخاطر الاختراق. المعركة القادمة ليست فقط على الأرض أو في الجو، بل في عالم الأصفار والآحاد، حيث تُحسم القرارات، قبل أن تبدأ الحروب.

المحور السادس: الذكاء الاصطناعي كضمانة للبقاء في قمة السلم الإقليمي
بينما ينشغل كثيرون بالاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي، هناك مسار آخر في إسرائيل: تسخيره لتقوية القاعدة العلمية والصناعية والاقتصادية. الهدف هنا ليس كسب معركة، بل بناء تفوق شامل، يجعل إسرائيل المصدر الإقليمي لأي تقنية.

في الجامعات ومراكز الأبحاث، يعمل آلاف الباحثين على مشاريع في الطب الحيوي، والطاقة المتجددة، وعلوم المواد، وتحليل البيانات البيئية. هذه الأبحاث مرتبطة مباشرة بالصناعة، حيث تنتقل الابتكارات بسرعة من المختبر إلى السوق. في الأمن الغذائي والمائي، تستثمر إسرائيل في أنظمة لإدارة الموارد بكفاءة، من شبكات ري ذكية إلى مراقبة جودة المياه، ما يمنحها ميزة في التكيف مع تغير المناخ وتصدير الحلول لدول أخرى.

في الصناعة، تتقدم إسرائيل في الذكاء الاصطناعي الصناعي، من التحكم في الروبوتات إلى تحسين سلاسل الإمداد، ما يضاعف إنتاجيتها، ويعزز مكانتها كمركز جذب للاستثمارات. بهذا الدمج بين التفوق العسكري والبحث العلمي، تؤمن إسرائيل لنفسها طبقة أمان استراتيجية، تجعل من الصعب إزاحتها عن الصدارة.

الخاتمة: خوارزمية القوة… من ساحة المعركة إلى معمل الأبحاث
ما بدأ كمشاريع بحثية، تحوّل في إسرائيل إلى منظومة متكاملة، تتغلغل في كل أبعاد قوتها. في الميدان، اختصرت الخوارزميات المسافة بين المعلومة والضربة إلى ثوانٍ. في الاستخبارات صارت البيانات الضخمة وقودًا لقرارات فورية. وفي الحرب النفسية، أعادت إسرائيل تشكيل وعي الخصوم بمهارة.

لكن الأخطر أن هذا التفوق لا يقتصر على الأمن والدفاع، بل يمتد إلى البحث العلمي والصناعة، ليضمن بقاء إسرائيل في قمة السلم الإقليمي. هذا الدمج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة يخلق طبقة أمان، تجعل من الصعب زعزعة مكانتها.

التحدي أمام العرب مزدوج: مواجهة سلاح ذكي قادر على الحسم، ومنافسة منظومة علمية واقتصادية، تبني تفوقًا طويل المدى. الفجوة ليست فقط في عدد الصواريخ، بل في القدرة على إنتاج المعرفة وتوظيفها. وفي هذا السباق، من يتحكم بالخوارزمية يضع قواعد اللعبة كلها.

المصادر:

تقارير استقصائية عن أنظمة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية–
تقرير The Guardian، “Inside Israel’s AI-powered targeting systems” (2024).
تحقيق +972 Magazine وLocal Call عن نظام “Lavender” و”Gospel” ودورهما في تصنيف الأهداف البشرية (2024).
تغطية عمليات إسرائيل ضد حزب الله–
وكالة رويترز، “Israel kills senior Hezbollah commander Fuad Shukr in Beirut strike” (31 تموز/تموز 2024).Associated Press، “Israeli strikes hit Hezbollah depots in Bekaa Valley” (15 تموز/تموز 2025).
BBC News، “Hezbollah official killed in Beirut strike” (1 نيسان/نيسان 2025).
ضربات إسرائيل ضد أهداف إيرانية –
Al Jazeera، “Israeli strike on Iranian consulate in Damascus kills senior IRGC commanders” (1 نيسان/نيسان 2024).
Haaretz، “Hamas leader Ismail Haniyeh assassinated in Tehran” (31 تموز/تموز 2024).
التقييمات العسكرية والتحليلية –
معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، “AI and the IDF: Operational integration and strategic implications” (2025).
مركز رصد النزاعات المسلحة (ACLED)، بيانات عن أنماط الضربات الجوية في لبنان وسوريا وغزة (2023–2025).
أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة من إسرائيل:

Lavender
نظام ذكاء اصطناعي يُنشئ قاعدة بيانات ضخمة لتصنيف آلاف الأشخاص كـ”أهداف محتملة” في غزة، مع مراجعة بشرية محدودة جدًا. شُهر بتسريبات +972 Magazine وLocal Call التي أشارت إلى حوالي 37,000 هدف معقول.
The Gospel (أحيانًا يُشار إليه بـ Habsora)
برنامج تحليل يستهدف المباني والمنشآت المحتملة (وليس الأفراد)، ويُوصي بضربها، مثل الجامعات والشقق التي يُعتقد، أنها تُستخدم من قبل حماس.
Where’s Daddy?
نظام تكميمي لـ Lavender يتعقّب الأفراد المشبوهين حتى يضعهم في موقع حساس (مثل المنزل وقت وجود العائلة) قبل تنفيذ الضربة.
Fire Factory
برنامج بعد اختيار الهدف، يهندس تنفيذ الهجوم من خلال تحديد الذخيرة المناسبة وخطة الضرب وتقسيم المهمات للطائرات أو الطائرات المسيّرة.
ELS‑8994 StarLight
منصة تحليل ذكية تجمع بيانات ضخمة (صور جوية، إشارات تحرّك، اتصالات، …)، وتحوّلها إلى “معلومات قابلة للعمل” لتسريع اتخاذ القرار.

Harpy / Guardium (أنظمة ذاتية ميدانية)
Harpy: مسيّرة “أطلق وانس”، تبحث وتضرب أنظمة الرادار تلقائيًا.
Guardium (MK III): مركبات ذاتية أرضية تُستخدم في مراقبة الحدود.
Pegasus
برنامج تجسس متطور يخترق الهواتف (بدون علم المستخدم) لالتقاط المكالمات، الرسائل، الصور، والموقع الجغرافي.
شرح لتكاملية أنظمة الاستهداف المدعومة بالذكاء الاصطناعي (إسرائيلية)

CopyEdit

[جمع البيانات والاستخبارات]

(أجهزة استشعار – أقمار صناعية – طائرات مسيرة – SIGINT – HUMINT)

  1. Lavender – مهمة: التصنيف الأولي للأهداف البشرية. – يعتمد على تحليل أنماط السلوك، والاتصالات، والوجود في مواقع معينة. – يخرج قائمة “أهداف بشرية” مع نسب احتمالية. ↓
  2. The Gospel – مهمة: الربط بين الهدف البشري أو المادي والمعلومة الميدانية. – يحلل البيئة المحيطة بالهدف: البنية التحتية، تحركات القوات، الموارد. – يحدد أفضل طريقة/وقت لضرب الهدف. ↓
  3. Alchemist – مهمة: دعم القرار العملياتي في الوقت الفعلي. – يجمع التوصيات من Lavender وThe Gospel مع بيانات ميدانية لحظية. – يعطي القادة “صورة مدمجة” ويقترح أولويات الضرب. ↓
  4. Fire Factory – مهمة: تحويل القرارات إلى خطة نيران متكاملة. – يحدد نوع السلاح، توقيت الضربة، توزيع الموارد (طائرات، مدفعية، صواريخ). – يمكنه جدولة ضربات متعددة تلقائيًا. ↓

[التنفيذ]

– الطائرات أو الوحدات تنفذ الضربة وفق الخطة.

– أحيانًا يكون هناك تدخل بشري للمصادقة النهائية، وأحيانًا يتم التنفيذ شبه تلقائي.

المسار باختصار:

Lavender = تحديد “من” هو الهدف؟
The Gospel = تحديد “كيف” و”أين” و”متى” ضربه؟
Alchemist = دمج المعلومات واتخاذ القرار العملياتي.
Fire Factory = تنفيذ الخطة وتنسيق النيران.

ماجدة القاضي – مصر

كيف ستتأثر “إسرائيل” بتوقف إمداد السلاح الألماني؟

كيف ستتأثر “إسرائيل” بتوقف إمداد السلاح الألماني؟

تحت ضغطٍ عالمي وأخلاقي متصاعد، أعلنت الحكومة الألمانية مؤخرًا تعليق تزويد تل أبيب بأي أسلحة يمكن استخدامها في العمليات داخل قطاع غزة، وذلك بعد أيام من إقرار حكومة الاحتلال خطة لاحتلال القطاع بالكامل. خطوة وصفتها بعض الصحف الإسرائيلية بـ”الزلزال”، لما تحمله من دلالة على تحوّل واضح في موقف برلين تجاه حليفها التقليدي، بعد أن كانت من أكثر العواصم الأوروبية تمسكًا بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.

يُنظر إلى هذا القرار بوصفه محاولة ألمانية لإيجاد توازن جديد بين التزاماتها التاريخية تجاه “إسرائيل”، وبين مقتضيات القانون الدولي الإنساني، وضغوط الرأي العام والمؤسسات القضائية داخل ألمانيا والاتحاد الأوروبي.

في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل القرار الألماني ونطاقه وحدوده القانونية، ونرصد الرد الإسرائيلي الرسمي وحجم الغضب الذي أثاره، كما نعرض بالأرقام حجم الصادرات العسكرية الألمانية إلى “إسرائيل” في السنوات الأخيرة، لنبحث في النهاية كيف يمكن أن ينعكس هذا القرار على قدرات جيش الاحتلال في الميدان.

ما الذي حدث؟
في 8 آب/آب 2025، أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن بلاده قررت وقف تصدير أي أسلحة يمكن استخدامها في قطاع غزة “حتى إشعار آخر”، في خطوة جاءت ردًّا على قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي باحتلال قطاع غزة بالكامل.

وأوضح ميرتس أن ألمانيا ما زالت تعترف بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس”، لكنها تعتبر أن إطلاق سراح الأسرى والدخول في مفاوضات جدية لوقف إطلاق النار يمثلان أولوية قصوى.

وأضاف أن برلين ترى في “نزع سلاح حركة حماس وعدم منحها أي دور في مستقبل غزة” شرطًا أساسيًا، لكن التصعيد العسكري الأخير من جانب إسرائيل يجعل تحقيق هذه الأهداف أكثر صعوبة. وأكد أن ألمانيا، رغم كونها أكبر مصدر أوروبي للأسلحة إلى “إسرائيل”، تشعر بقلق بالغ إزاء المعاناة المستمرة للمدنيين في غزة.

مشددًا على أن “الهجوم المخطط له يضع على عاتق الحكومة الإسرائيلية مسؤولية أكبر لتلبية احتياجات السكان”. كما دعا ميرتس تل أبيب إلى الامتناع عن أي خطوات إضافية نحو ضم الضفة الغربية.

تفاصيل القرار

ماهيّة التعليق؟
يوقف قرار برلين الصادر مؤخرًا منح أي تراخيص جديدة لتصدير الأسلحة، إضافة إلى تعليق التسليمات الجارية، لكل ما يمكن أن يُستخدم مباشرة في العمليات داخل قطاع غزة. ويتضمن ذلك -وفق البيان الحكومي-الأسلحة الخفيفة والذخائر، وأنظمة التهديف والاتصال العسكرية، وقطع الغيار الحيوية، وبعض المكوّنات الإلكترونية ذات الاستخدام العسكري الواضح. فيما يهدف القرار إلى منع وصول أي معدات قد تُحدث “أثرًا قتاليًا مباشرًا” في ساحة غزة.

ما هو الإطار القانوني؟
استند القرار إلى مزيج من قانون مراقبة أسلحة الحرب الألماني وقانون التجارة الخارجية إضافة إلى الموقف المشترك للاتحاد الأوروبي 2008/944 الخاص بمعايير تصدير السلاح (خاصة معيار احترام القانون الدولي الإنساني ومبدأ منع تفاقم النزاعات). عمليًا، يعني ذلك أن أي طلب ترخيص يُفحص الآن بمبدأ “الافتراض بالرفض” إذا وُجد احتمال معتبر لاستخدامه في غزة.

ما الذي لا يشمله التعليق؟
– المعدات ذات الاستخدام الإنساني/الإنقاذي البحت (مثل تجهيزات الحماية المدنية والإجلاء الطبي).
– بعض الاستخدامات المزدوجة التي يمكن ضمان عدم تحويلها عسكريًا، بشرط وجود قيود وشهادات مستخدم نهائي صارمة.

– عقود الصيانة الروتينية التي لا تضيف قدرة قتالية جديدة ولا تُسهِّل استخدامًا مباشرًا في غزة وحتى هذه سيتم مراجعتها كل على حدى حسب الحالة.

كما فرّق القرار بين أنواع العقود والتراخيص؛ فالتراخيص التي مُنحت ولم تُنفذ بعد ستُجمّد فورًا، أما الشحنات التي سُلّمت بالفعل فلن يشملها القرار. وبالنسبة للعقود الجارية حاليًا، فستخضع لمراجعة سريعة وقد تُوقف إذا تبيّن احتمال استخدامها في غزة، مع منح الشركات حق الاعتراض أمام الهيئة الاتحادية للرقابة على الاقتصاد والتصدير (BAFA).

أما فيما يخص نطاق المراجعة الزمنية، فلم يتم تحديدها سلفًا، لكن ستجري مراجعتها بشكل منتظم كل شهر وكل ثلاثة أشهر، لمتابعة تطورات الأوضاع في غزة، ومدى الالتزام بالقانون الدولي، وتأثير القرار على الإمدادات الدفاعية لألمانيا وأوروبا.

مع التشديد على أن أيّ قرار بتخفيف الحظر سيكون مرتبطًا بتغيّر الظروف، مثل إلغاء خطة الاحتلال الكامل، وتقديم ضمانات إنسانية يمكن التحقق منها، ووضع آليات واضحة لمتابعة استخدام الأسلحة.

كيف جاء الرد الإسرائيلي؟
أثار قرار برلين تعليق تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل” موجة انتقادات حادة في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية. فقد وصفت صحيفة يديعوت أحرونوت الخطوة بأنها “طعنة في الظهر” من شريك استراتيجي طالما وقفت ألمانيا إلى جانبه سياسيًا وعسكريًا.

ورأى مسؤولون في حكومة الاحتلال أن القرار يمثل سابقة خطيرة، لكون ألمانيا واحدة من أكبر مزوّدي الجيش الإسرائيلي بالسلاح داخل الاتحاد الأوروبي.

حاول نتنياهو التخفيف من وقع القرار بالتأكيد على أن “هدف إسرائيل ليس السيطرة على غزة، بل تحريرها من حماس.”
وعلى الصعيد الرسمي، عبّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن “خيبة أمله” من الموقف الألماني، وذلك خلال مكالمة هاتفية مع المستشار فريدريش ميرتس، بحسب بيان صادر عن مكتبه. كما حاول نتنياهو التخفيف من وقع القرار بالتأكيد على أن “هدف إسرائيل ليس السيطرة على غزة، بل تحريرها من حماس وتمكين إقامة حكومة سلمية هناك”، على حد وصفه.

ماذا يعني قرار الحظر؟
يمثل قرار ألمانيا تعليق تصدير الأسلحة إلى إسرائيل تحولًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين منذ عقود، إذ ينقل برلين من موقع الدعم غير المشروط إلى فرض قيود مرتبطة بسلوك “إسرائيل” الميداني.

كما يضع هذا الموقف ضغوطًا مباشرة على سلاسل الإمداد العسكري الإسرائيلية، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على التكنولوجيا أو المكوّنات الألمانية، مثل أنظمة الاتصالات المتطورة والمعدات المدرعة.

على المستوى الرمزي، يوجّه الحظر رسالة واضحة لحلفاء إسرائيل في أوروبا بأن استمرار العمليات العسكرية في غزة على النهج الحالي لم يعد مقبولًا سياسيًا أو قانونيًا، ما قد يدفع دولًا أخرى لاتخاذ مواقف مماثلة، ويهيئ لمراجعة أوسع للعلاقات الدفاعية الأوروبية مع تل أبيب.

ويُنظر إلى هذه الخطوة أيضًا كإجراء جريء من المستشار فريدريش ميرتس، الذي كان قد صرّح بعد فوزه بالانتخابات في شباط/شباط بأنه سيدعو نتنياهو لزيارة ألمانيا، في تحدٍ لمذكرة الاعتقال الصادرة بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية، وفق ما نقلته وكالة رويترز.

ما حجم الصادرات العسكرية الألمانية لإسرائيل؟
تحتل ألمانيا المرتبة الثانية عالميًا بين مصدري الأسلحة إلى إسرائيل، بحصة بلغت نحو 30% من وارداتها بين عامي 2019 و2023، وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. وتشمل الصادرات الألمانية في الغالب غواصات وسفن حربية، ومحركات للمركبات البرية والبحرية والطائرات، إضافة إلى طوربيدات للغواصات.

في عام 2022، وقّعت إسرائيل صفقة ضخمة بقيمة 3.3 مليارات دولار مع برلين لشراء ثلاث غواصات ديزل متطورة من طراز داكار، المقرر تسليمها عام 2031، لتحل محل غواصات دولفين الألمانية التي تشغلها البحرية الإسرائيلية حاليًا.

عام 2023 شهد قفزة غير مسبوقة في مبيعات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، إذ بلغت 361 مليون دولار -أي عشرة أضعاف قيمة الصادرات في 2022- وكانت غالبية التراخيص الممنوحة بعد 7 تشرين الأول/تشرين الأول.

وشملت هذه الصادرات 3000 سلاح مضاد للدبابات محمول، و500 ألف طلقة ذخيرة للأسلحة النارية الآلية أو شبه الآلية، إضافة إلى مركبات برية وتقنيات لتطوير وتجميع وصيانة الأسلحة.

كما سلّمت ألمانيا محركات ديزل لدبابات ميركافا-4 التي تُستخدم في الغزو البري لغزة، وهي الدبابات التي ارتبط اسمها بهجمات واسعة على المدنيين والبنية التحتية في القطاع.

ووفق صحيفة فايننشيال تايمز، أنشأت برلين في تشرين الثاني/تشرين الثاني 2023 “مجموعة عمل” تضم وزارتي الخارجية والاقتصاد ومكتب مراقبة الصادرات، بهدف تسريع الموافقات على طلبات السلاح الإسرائيلية.

بقدر ما يحمل موقف برلين الجديد أبعادًا عملية قد تؤثر على قدرات جيش الاحتلال في مجالات محددة، فإنه يحمل أيضًا رسالة سياسية قوية إلى تل أبيب يفيد بأن استمرار العمليات في غزة على نهجها الحالي لم يعد مقبولًا في العواصم الأوروبية الكبرى.

وبينما سيظل تأثير القرار على المدى البعيد مرتبطًا بمدى اتساعه وانضمام دول أخرى إليه، فإنه بلا شك يفتح فصلًا جديدًا في علاقة برلين بتل أبيب، فصلًا تحكمه حسابات السياسة والقانون الدولي أكثر من منطلقات التضامن التاريخي.

يمان الدالاتي – نون بوست

اغتيال “عيون” غزة

اغتيال “عيون” غزة

لم يتوقف الاستهداف الإسرائيلي في قطاع غزة منذ تشرين الأول/تشرين الأول 2023، وخلال هذه المدة، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي، ضِمن استهدافاته للمدنيين، الصحافيين، فبلغ عدد الشهداء منهم 238 شهيداً، وفقاً للإعلام الحكومي في غزة، الذي دان بشدة الاغتيال، وذلك بعد استهداف طال خيمتهم في وقت متأخر من مساء أمس، 10 آب/آب 2025، عند مجمع الشفاء الطبي في غزة، وهو ما أدى إلى استشهاد 6 صحافيين، هم:

أنس الشريف، مراسل قناة “الجزيرة”.
محمد قريقع، مراسل قناة “الجزيرة”.
إبراهيم ظاهر، مصور صحافي.
مؤمن عليوة، مصور صحافي.
محمد نوفل، مساعد مصور صحافي.
محمد الخالدي، يعمل مع منصة “ساحات”.
وعَقِبَ تنفيذ الاغتيال أمام مجمع الشفاء الطبي، أعلن مدير المجمع، الدكتور محمد أبو سلمية، استشهاد سبعة أشخاص، بينهم أنس ومحمد، وعدد آخر من الشهداء الصحافيين جرّاء استهداف خيمة معروفٌ أنها للصحافيين. وأضاف أبو سلمية في حديث إلى قناة “الجزيرة” أن “الاحتلال يحاول إخفاء حقيقة مجازره في القطاع باستهدافه الصحافيين”، وأشار إلى أن الاحتلال يحضّر لمجزرة في القطاع في غياب صوت أنس ومحمد و”الجزيرة” ومنابر الحقيقة، وعبّر عن خشيته من أن يموت سكان غزة في صمت من دون أن يسمعهم أحد.

الهدف واضح

تأتي هذه الجريمة الجديدة في سياق ممنهج لإسكات الأصوات الناقلة للواقع المروع في قطاع غزة، ولا سيما أن إسرائيل منعت دخول صحافيين أجانب وعرب إلى القطاع، فاقتصرت التغطية المستمرة منذ بدء العدوان على الصحافيين الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة. هذا فضلاً عن أن الصحافيَين أنس الشريف ومحمد قريقع يعملان في شمال القطاع الذي تنوي إسرائيل شنَّ عملية كبيرة فيه، كما أعلنت خلال الأيام الماضية، وبالتالي ربما تجرب منْع تصوير أو نقْل أي خبر من هناك.

وفي بيان نشره بُعَيْدَ الغارة على خيمة الصحافيين، أقر جيش الاحتلال الإسرائيلي باغتيال الشريف، وَوَصَفَهُ بأنه “‘إرهابي‘ تنكّر بزي صحافي في قناة ‘الجزيرة‘”، وادعى أن أنس الشريف كان قائد خلية في حركة “حماس”، وروّج لإطلاق الصواريخ على إسرائيل.

وتعرّض الصحافيون في قطاع غزة لحملة تحريض إسرائيلية منذ بدء الحرب على القطاع، في تشرين الأول/تشرين الأول 2023، وحتى قبل الحرب، مع اغتيال الصحافية الفلسطينية في قناة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة في أيار/أيار 2022، حين استهدفها قناص إسرائيلي في جنين.

تنديدات باغتيال الحقيقة

نددت عدة جهات محلية وعربية ودولية باغتيال الصحافيين في غزة، وأصدرت شبكة “الجزيرة” بياناً قالت فيه: “ندين الاغتيال المدبَّر لمراسلَينا أنس الشريف ومحمد قريقع والمصورَين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل.” وقالت إن “اغتيال مراسلَينا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي هجوم جديد سافر ومتعمَّد على حرية الصحافة.” وحمّلت “الجزيرة” جيش الاحتلال وحكومتَه مسؤولية استهداف فريقها واغتياله. هذا واستنكرت الجرائم البشعة والمحاولات المستمرة من السلطات الإسرائيلية لإسكات صوت الحقيقة، وشددت على أن الإفلات من العقاب وعدم المحاسبة يؤمّن لإسرائيل تماديها، ويشجعها على مزيد من البطش بحق شهود الحقيقة.

ودانت نقابة الصحافيين الفلسطينيين بشدة “الجريمة البشعة باغتيال الزميلَين الصحافيَين أنس الشريف ومحمد قريقع مراسلَي قناة ‘الجزيرة‘ في مدينة غزة عَقِبَ استهداف خيمة للصحافيين في مستشفى الشفاء.” ونشرت النقابة إفادة الشريف لها بشأن التهديدات والاستهدافات الإسرائيلية منذ بداية الحرب، وقال الشريف: “منذ اندلاع الحرب سنة 2023، تعرضتُ لعشرات التهديدات من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، بدأتْ منذ الشهر الأول. وتم تنفيذ أولى هذه التهديدات عبر استهداف مباشر لمنزلي ومنزل عائلتي، وهو ما أدى إلى استشهاد والدي، ثم تكررت الاستهدافات عدة مرات بعد ذلك.”

ودان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، عملية الاغتيال بالقول: “ننظر إلى ما حدث في غزة اليوم، ولطالما كنا واضحين تماماً في إدانة جميع عمليات قتْل الصحافيين.” وأكد أن الصحافيين يجب أن يتمكنوا من أداء عملهم بحرّية من دون استهداف، “في غزة وفي كل مكان.”

وبدورها، قالت المقررة الأممية لحرية الرأي والتعبير، إيرين خان، إن “الجيش الإسرائيلي يحاول قتْل الحقيقة، لكنه لا يستطيع ذلك.” وأضافت خان، التي حذّرت مؤخراً من أن التهديدات الإسرائيلية ضد الشريف تُعَرِّضُ حياته للخطر، أن الصحافيين الذين “يكشفون فظائع إسرائيل في قطاع غزة يتم استهدافهم”، واصفة الصحافي الشهيد أنس الشريف بـ “الشجاع”، وأكدت أن عدد الذين قُتِلُوا من الصحافيين في قطاع غزة يفوق عدد مَن قُتلوا من الصحافيين في أي صراع آخر.

وقالت خان: “إسرائيل تتصرف وكأنها وحش محشور في الزاوية، وتستهدف كل مَن ينتقدها”، وأكدت ضرورة “محاسبة إسرائيل”، وإجبارها على “إدخال الإعلام الدولي إلى غزة.”

أمّا نادي الصحافة الأميركي، فقال على لسان رئيسه: “نعرب عن حزننا وانزعاجنا إزاء التقارير الواردة عن مقتل مراسل ‘الجزيرة‘ أنس الشريف في غزة”، ودعا إلى “تحقيق شامل وشفاف” في ملابسات قتْله.

وبدورها، قالت المديرة الإقليمية للجنة حماية الصحافيين إن “إسرائيل دأبت على وصف الصحافيين بالـ ‘إرهابيين‘ من دون تقديم أدلة موثوقة.” وأضافت أن “نهْج إسرائيل تجاه الصحافيين يثير أسئلة بشأن نيتها واحترامها حريةَ الصحافة.”

وأعربت لجنة حماية الصحافيين عن صدمتها من اغتيال مراسلَي قناة “الجزيرة” أنس الشريف ومحمد قريقع ومصورَيهما في هجوم إسرائيلي على خيمة للصحافيين في مدينة غزة، وَدَعَتْ إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. كما أعربت عن قلقها إزاء وصْف إسرائيل المتكرر للصحافيين بـ “‘الإرهابيين‘ من دون تقديم أدلة موثوقة، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية بشأن نياتها”.

كما اعتبرت منظمة “مراسلون بلا حدود” أن الجيش الإسرائيلي يكرر في هجومه على الصحافيين ما وصفته بـ “عملية معروفة ومثبتة، وخصوصاً ضد صحافيي ‘الجزيرة‘”. وقالت إن المجتمع الدولي بقيادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تَجَاهَلَ تحذيراتٍ مِنْ قُرْبِ هذا الهجوم، منددة بذلك. وطالبت المنظمة العالمَ باتخاذ إجراءات حازمة لوقف ما سمَّتْهُ عمليات إعدام إسرائيلية للصحافيين.

أمّا حكومياً، فقالت دائرة الاتصال في الرئاسة التركية إن استشهاد صحافيي “الجزيرة” في قطاع غزة عبر الاستهداف المباشر يُعَدُّ تصرُفاً إسرائيلياً همجياً، وأضافت أن إسرائيل تستهدف الصحافيين لمنْع العالم من رؤية جرائم الإبادة التي ترتكبها.

أيضاً، دانت الخارجية الإيرانية الهجوم الإسرائيلي على الصحافيين، ووصفته بالجريمة، وقالت إن “الهجوم على الصحافيين محرَّم في أي حال، واستهدافهم هو جريمة حرب.”

كذلك، قال وزير خارجية النرويج: “قَتْلُ صحافيي ‘الجزيرة‘ في غزة أمرٌ مثير للغضب وغير مقبول مطلقاً.” وأضاف: “مهاجمة الصحافيين عمداً هو اعتداء على حرية التعبير”، مُعْتَبِراً أن غزة، بعد قتْل أكثر من 200 صحافي وإعلامي فيها، صارت “أخطر مكان للصحافيين في العالم”، مُشَدِداً على ضرورة حمايتهم.

كما قال النائب المستقل في البرلمان البريطاني، جيرمي كوربن، إن قتْل الصحافيين هو محاولةٌ لطمْس حقيقة الجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن قتْلهم عمداً هو أمر مقزز للغاية.

أيمن السهلي – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

من الألم إلى اللغة: كيف تتكّلم المجتمعات المجروحة؟

من الألم إلى اللغة: كيف تتكّلم المجتمعات المجروحة؟

يُعتبر كتاب فيينا داس “الحياة والكلمات: العنف والانحدار إلى العادي” المترجم إلى الفرنسية بعد ست عشرة سنة من صدوره باللغة الإنكليزية نقطة تحوّل في فهم العنف وتأثيره على الحياة اليومية. داس لا تنظر إلى العنف كحدث منفصل، بل كجزء عميق ومتغلغل في نسيج الحياة، حيث تتداخل الكلمات مع الألم لتعيد بناء المعنى وسط الدمار. في هذا الكتاب، اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل أداة تعيش مع الناس، تحكي قصصهم وتحمل أعباء تجاربهم.

انطلق بحث داس من شهادات الناجين من مجازر تهدف إلى تقسيم الهند، حيث عاشت أجيال كاملة بين فصول العنف المدمّر. اعتمادها على المقابلات والعيش مع الناس في أماكنهم مكّنها من التقاط تفاصيل دقيقة تجعل من المعاناة تجربة يومية تتكرّر، لا مجرّد لحظة استثنائية. وهذا ما يمنح كتابها قوة استثنائية، إذ يكشف كيفية تداخل العنف مع تفاصيل الحياة، وكيف يُعاد إنتاجه عبر الذاكرة والكلام. أما في العالم العربي، فيكتسب، هذا الكتاب الذي لم يلاقِ بعد طريقه إلى الترجمة، أهمية خاصة. فالنزاعات والحروب الطائفية، وتجارب الاستعمار تركت ندوباً عميقة على النسيج الاجتماعي، لا تختلف كثيراً عمّا تصفه فينا داس وهي تتحدّث عن مجازر السيخ في الهند.

هناك في الهند، حيث الألم يتردّد في القصص والذاكرة، يفتح كتاب داس نافذة لفهم كيف يستمر الناس في العيش، وكيف تحاول الكلمات أن تمنحهم قدرة على مواجهة ما يكاد لا يُقال. هذا الكتاب إذاً، ليس مجرّد دراسة عن العنف، بل دعوة لفهم الحياة وسط الألم، وكيف يمكن للغة أن تكون وسيلة للبقاء والرفض والمقاومة. داس تخطو خطوة أبعد من مجرّد وصف العنف، فهي تغوص في أعماق تجاربه النفسية والاجتماعية، خاصة كيف يؤثّر على النساء والفئات الهشّة. الماضي المؤلم لا يختفي، بل يعيش في الحاضر، ويُعاد تشكيله في الكلام. اللغة تصبح مكاناً يعيد بناء الهوية والروابط الاجتماعية، رغم هشاشتها وضعفها الظاهر.

تعتمد داس على مزيج من الأنثروبولوجيا والفلسفة، مستفيدة من فكر فيتجنشتاين، لتعيد التفكير في علاقة الإنسان بلغته والعالم المحيط به، ولا سيما في ظل الفقد والدمار. هذه المقاربة تجعل الكتاب أكثر من مجرّد دراسة أكاديمية، بل نصاً إنسانياً يُشعر القارئ بقوة الكلمة وسط الظلام. وبفضل المنهج الإثنوغرافي الذي يركّز على القصص الشخصية، نتمكّن من رؤية العنف ليس فقط في لحظته، بل في استمراريته، وفي قدرة الأفراد على إعادة بناء حياتهم رغم كلّ شيء. هنا، تصبح الحياة اليومية فضاءً للمقاومة، والكلمات أداة تحمي تماسك المجتمع وتمنح الأفراد قدرة على التعبير عن ألمهم، حتى وإن بدا صمتها أحياناً أكثر تعبيراً من الكلام. يقدّم كتاب فيينا داس فهماً جديداً للعلاقة بين العنف والحياة واللغة، ويُعيد الاعتبار للكلمة كفعل مقاومة وحياة. هو مرجع لا غنى عنه لكلّ من يهتم بفهم التجارب الإنسانية العميقة في مواجهة العنف، خاصة في مجتمعاتنا العربية التي تظل تشهد قصص الألم والنجاة.

في هذا الصدد يكشف الفصل الأول من الكتاب عن عمق مشروعها النظري والميداني، حيث تضعنا منذ البداية أمام سؤال مركزي: كيف يمكن فهم العنف لا بوصفه مجرّد حدث استثنائي، بل كتجربة تنغرس في نسيج الحياة اليومية، وتعيد تشكيل معنى العيش، وحدود اللغة، وشروط الإنسانية؟ في هذا الفصل التأسيسي، لا تقدّم داس سرداً تأريخياً للأحداث، بل تُدخل القارئ في حوار غني بين الأنثروبولوجيا والفلسفة، وبالأخصّ مع فكر لودفيغ فيتجنشتاين وستانلي كافل، حول ما يمكن أن تقوله اللغة في لحظات العنف، وما تعجز عنه. فهي لا تنشغل بما قيل فقط، بل بما لم يُقل، وبما لا يمكن قوله. العنف، كما تصفه، لا يُفهم فقط من خلال الشهادة أو الخطاب، بل من خلال تفكّك “قواعد اللعبة” اللغوية نفسها، ومن انهيار “معايير الفهم” في لحظات الصدمة.

ما يلفت في هذا الفصل هو أنّ داس لا تضع العنف خارج الحياة، بل تعتبره جزءاً منها، يظهر في “لحظات رعب” تعود إلى السطح في تفاصيل الحياة اليومية، وتنتشر في العلاقات الاجتماعية كأشباح للحدث المدفون. فهي لا تسعى إلى تأريخ المجازر أو توثيقها كأحداث سياسية، بل تلاحق أثرها في اللغة، في الإيماءات، في الصمت، وفيما يُظهره الجسد أو يخفيه، حين يصبح القول مستحيلاً أو مهدّداً. تصف داس العنف على أنه فشل في “نحو الحياة اليومية” وانهيار لقدرة الناس على التفاهم ضمن ما يُفترض أنه مشترك ومفهوم ضمناً. في هذا السياق، تصبح اللغة نفسها مجالاً للتشظّي: هناك انفصال بين “الصوت” و”الكلام”، حيث يُقال ما لا يُراد قوله، ويُكتم ما يحتاج إلى الإفصاح، أو يُعاد إنتاجه من خلال الإيماء أو الصمت. وهنا، يبرز دور الأنثروبولوجي لا كمُفسِّر لما يُقال، بل كمنصت لما يُظهره الناس من دون أن يُصرّحوا به.

السؤال المحوري الذي تطرحه داس هو: ماذا يعني أن “تجمع شتاتك وتعيش وسط الركام”؟ هي لا تبحث عن لحظة خلاص أو تعالٍ، بل عن كيفية اجتراح الحياة من قلب العطب، عبر ما تسمّيه بـ “الانغماس في اليومي” لا “الصعود إلى التجريد”. في هذا السياق، يبدو العنف تجربة تُقاوَم لا بالبطولة، بل بالاستمرارية، بالعيش، بالتكرار، بالروتين، بالتماهي مع تفاصيل الحياة الصغيرة التي لا تبدو مقاومة لكنها تنطوي على فعل إعادة تشكيل للعالم. من خلال هذه الرؤية، يفتح الفصل الأول الباب أمام أسئلة متعدّدة عن كيفية تعامل الأفراد والجماعات مع الخطر، كيف “يدجّنون” الرعب، ويعيدون تشكيل علاقتهم بالمكان والزمان، بل وبالإنسانية ذاتها. وهو ما يجعل مقاربتها ذات أهمية قصوى في العالم العربي، حيث العنف ليس استثناءً بل بنية كامنة في الحياة اليومية للكثير من المجتمعات.

داس لا تقدّم نموذجاً جاهزاً، بل أفقاً نظرياً وأخلاقياً لفهم كيف يعيش الناس بعد الفقد، وكيف تُبنى أشكال هشّة لكن حقيقية من “الحياة” وسط ما يبدو أنه موت مستمرّ. في المحصّلة، يضعنا هذا الفصل أمام تجربة فكرية وميدانية تتجاوز تقنيات الوصف، نحو مساءلة عميقة للغة، للذاكرة، وللوجود الإنساني ذاته حين يُكسر، ثم يُعاد ترميمه — لا عبر الكلّيات أو الحلول الكبرى، بل من خلال الحياة كما تُعاش في التفاصيل.

بداية من الفصل الثاني حتى الفصل السادس من هذا الكتاب بالغ الثراء الفلسفي والأثنوجرافي تنقلنا فيينا داس إلى قلب العنف المؤسس للدولة الهندية الحديثة، من خلال تقصّي آثار التقسيم الدموي بين الهند وباكستان عام 1947، ليس كحدث تاريخي مغلق، بل كجرح مفتوح يواصل تشكيل الذاكرة والسياسة والجسد الاجتماعي. تعتمد داس على مسارات لاجئين من البنجاب، خصوصاً النساء اللواتي خُطفن واعتُدي عليهن جنسياً خلال تلك الفترة، لتكشف عن البُنية الذكورية التي تأسّس بها مشروع الدولة القومية في الهند. فالدولة الحديثة، كما تبيّن، لم تكن حيادية أو “علمانية” بقدر ما أعادت تأكيد السيادة الذكورية، عبر امتلاك الأجساد النسائية، وحسم مصائرها فيما يشبه تقسيماً طائفياً للجسد. استعادة النساء المختطفات من “العدو” لم تكن فعلَ إنقاذ بريء، بل إعادة فرضٍ لوصاية قومية وأبوية على الجسد المُنتِج للهوية والجماعة.

لكنّ قوة هذه الفصول لا تكمُن فقط في توصيف هذه البُنى، بل في تتبّع الكيفيّات التي تعيش بها النساء الناجيات ما بعد الصدمة، في مجتمعات لا تمنحهن دائماً حقّ التعبير أو الاعتراف. “السكنى في عالم مكلوم”، كما تصفه داس، لا يعني التماهي مع الألم، بل محاولة يومية لإعادة تشكيل الذات ضمن حدود القبول والنبذ الاجتماعي. تقدّم الكاتبة بورتريهات كثيفة لنساء تفاوضن مع الأدوار المفروضة عليهن: بعضهن انصعن للمعايير الثقافية، وأخريات انخرطن في “إعادة سرد” تجاربهن ضمن أشكال من الطقوس والمآذارات التي تُعيد امتلاك الحكاية والجسد معاً. تبرز هنا فكرة “عامل الزمن” كعنصر فاعل لا كمجرّد خلفيّة للحدث. فالزمن، لدى داس، ليس شيئاً يُقاس أو يُروى، بل مجال تُدمَج فيه التجربة العنيفة، ويتشكّل ضمنه نوع من العلاقة المعطوبة بالحياة: علاقة تجعل من العادي مريباً، ومن القرب حافلاً بالمسافة. إنّ من يعيشون بعد العنف لا يعودون إليه بوصفه ماضياً فحسب، بل كقالب زمني يسكن العلاقات الحميمة ويعيد ترسيم حدود الأمان واللغة والثقة.

هذه التجارب لا تُحكى دوماً بوضوح. فكما في الفصل الأول، تواصل داس مساءلتها لما هو غير قابل للقول، وللإشارات الصامتة التي تَظهر في الإيماءات، وفي ما يُقال من دون أن يُقصَد، أو يُخفى من دون أن يُنسى. تصف المعرفة الناتجة عن هذه التجارب بـ “المعرفة المسمومة”، أو “المعرفة المصوغة من الألم”، وهي معرفة تنفلت من مفاهيم الطب النفسي أو الخطاب الرسمي عن “الصدمة”، لأنها لا تتناسب مع النموذج الفردي والمجرّد الذي يفترضه مفهوم trauma في كثير من المقاربات الغربية. هذا الاشتباك بين الجسد والذاكرة واللغة والزمن، كما تصوغه داس، يقدّم نظرة فريدة لفهم العنف في سياقاته المتداخلة: كجماعي وداخلي، كدولتي وأُسَري، كذكوري وطائفي. وهذا ما يجعل هذا العمل مرآة مهمة لسياقات عربية كثيرة لم تعش فقط عنف الدولة أو الحرب، بل تعيش عنف “العادي”، وصعوبة التعبير عنه، والعيش بعده. في عالم تتقاطع فيه السياسة بالجسد، وتختلط فيه المعاناة بالصمت، يمنحنا كتاب داس أدوات لفهم كيف “يُعاد بناء العيش” في ظل الكارثة، لا عبر النسيان، بل عبر ترويض الألم وتحويله إلى إمكان للحياة.

في الفصول الممتدة من السابع إلى العاشر، تُواصل فيينا داس حفرها العميق في التجربة الهندية مع العنف، لكن من زاوية مغايرة: لم تعد المسألة هنا متعلقة فقط بالعنف المؤسس للدولة كما في فصولها السابقة، بل بكيفية تجذّر العنف في الحياة اليومية، داخل الأحياء المهمّشة لمدينة دلهي، في أعقاب المجازر التي استهدفت طائفة السيخ سنة 1984 في إثر اغتيال إنديرا غاندي. تدفعنا داس في هذه الفصول إلى التفكير في العنف لا بوصفه لحظة استثنائية، بل كبنية زمنية قابلة للتفعيل في كلّ حين، بفعل اللغة، والمكان، والذاكرة الجمعية المشحونة.

أحد المفاهيم المركزية التي تستثمرها داس في هذا السياق هو مفهوم الرُّمور (rumor)، ليس كخطاب زائف أو كذبة جماعية، بل كفعل لغوي يُنتج الحدث في لحظة التلفّظ به. فالرُّمور، كما تصفه، هو كلام بيرلوكوتي (perlocutoire) ـــــ أي أنّ تأثيره لا يكمن فقط في معناه، بل في أثره: هو يُحرّك، يُخيف، يُجنّد، يقتل. الرُّمور ليست فقط ناقلاً للذعر، بل هي لغة مُعدية تُحوِّل الجار إلى عدو، وتحوّل “الضحية” إلى “معتدٍ”، ما دام الخوف قد سبق الفعل وألبسه شرعية. هذا التحوّل في وظيفة اللغة هو ما تلاحظه داس كأحد شروط إمكان العنف الجماعي، حين ينصهر الموروث الثقافي والخيال السياسي في خطاب يُنتج الواقع لا يصفه.

في هذا المشهد، لا يمكن فصل العنف عن الحيّز المكاني والاجتماعي الذي يجري فيه. داس تُؤكّد عبر تحليلها الإثنوغرافي أنّ “الفعل العنيف” لا ينبثق فجأة، بل يتكثّف ضمن شبكة من الظروف المحلية: التفاوت الطبقي، الهشاشة الاقتصادية، التهميش الجغرافي، والاختلال في العلاقة مع أجهزة الدولة. العنف هنا هو استمرارية لحياة يومية مختلة، وليس قطيعة معها. هذا ما يُعبّر عنه قولها بكون العنف هو “امتداد للحياة اليومية”، لا خرقٌ لها. تسلّط داس الضوء على تناقضات الدولة بوصفها كياناً غامضاً وغير مقروء، تتجلّى أحياناً في صورة “عقلانية قانونية”، وأحياناً كقوة “سحرية” تؤدّي أدواراً تمثيلية من دون محتوى فعلي. تستعير داس من جاك دريدا مفهوم “التوقيع” لتوصيف “التكنولوجيا البيروقراطية” للدولة، حيث تتحوّل الأختام، والتقارير، والاستمارات إلى طقوس تعيد إنتاج شكل من أشكال السلطة التمثيلية، لا الفعلية. السلطة هنا لا تُمارَس بقدر ما تُمثَّل، في فضاء يعجز الأفراد عن فكّ شفراته.

أمام هذه الدولة غير المقروءة، ترصد داس كيف تتعامل النساء – من فقدن أزواجاً أو أبناءً حُرِقوا أحياء – مع فشل الطقوس في منح المعنى للموت. تساؤلات مثل “كيف نحرق طقسياً جسداً قد أُحرق حيّاً؟” أو “كيف أُعلن أمومتي وأنا أنفي وجود بناتي؟”، تعكس الانكسار الرمزي الذي تُحدثه المجازر في النظام الاجتماعي والمعرفي. ورغم ذلك، لا تسقط داس في أطروحة الضحية السلبية. على العكس، ترصد الإمكانيات الصغيرة التي تنفتح في الحياة اليومية: لحظات المقاومة، مساحات التفاوض، ومآذارات رمزية تُعيد بعض السيطرة على السرد. بعض النساء يجدن، في غمار الحداد المستحيل، طرقاً لصنع الفعل السياسي – لا عبر خطاب كبير، بل من خلال التمسّك بالروتين، أو ابتكار لغة جديدة، أو خلق معنى للأمومة في عالم بلا ضمانات.

اللافت أنّ داس تختم هذه الفصول بتركيز على الأطفال الذين نشأوا في هذا السياق المسموم، أولئك الذين يبنون لغتهم وهويّتهم ضمن “معارف غير قابلة للامتلاك” savoirs inappropriables، أي خبرات لا يمكن نقلها ولا تعليمها، بل تُكتسب عبر الألم والمعايشة المباشرة للهشاشة. بذلك، تُقدّم داس، على غرار ما فعله ميشيل نايبلز في كتابه Dans la détresse، مقاربة عميقة للهشاشة ليس كصفة فردية، بل كبنية اجتماعية وسياسية تُعيد تشكيل المعنى، والسرد، والزمن. فهي لا تكتفي بتوثيق العنف، بل تسأل عن شروطه، وسبل تحوّله إلى لغة، وشكل حياة، ووسيلة مقاومة في آن.

في ختام هذا المسار التحليلي، يتبيّن أنّ مشروع فينا داس لا يقتصر على دراسة آثار العنف بوصفه حدثاً استثنائياً أو لحظة انفجار جماعي، بل يذهب أبعد من ذلك ليجعل من اليومي الهشّ والمألوف حقلاً لفهم كيف تتسلّل الصدمات إلى تفاصيل الحياة، وكيف يُعاد بناء الذات بعد “موت العالم”. إنّ القوة المفهومية لهذا العمل تكمن في ابتعاده الواعي عن التفسيرات الثنائية الجاهزة، سواء في تصوّر الدولة كفاعل مطلق العنف أو في اختزال الضحايا إلى كائنات صامتة، لصالح نظرة دقيقة ومتجذّرة في الواقع، تُنصت لما هو هامشيّ، متقطّع، ومتروك في الظلّ.

تُقدّم فينا داس في هذا الإطار تصوّراً أخلاقياً ومهنياً للأنثروبولوجيا، يجعل من مسؤولية الباحث ألّا يكتفي بوصف الألم، بل أن يُفكّر في عواقب “تسمية” ما لا يُسمّى، وفي معنى “العيش” في ظلّ حضور دائم للموت، لا فقط كفعل ماضٍ، بل كاحتمال حاضر ومستمر. إنها تدعونا إلى التحفّظ والاحتراس من الانزلاق نحو تسييس الألم بشكل رومانسي، أو تجميل معاناة الآخرين عبر المفاهيم المجرّدة. فمن خلال تتبّعها لـ “محاولات الترميم الصامتة” في الحياة اليومية، والطقوس الصغيرة التي تؤسّس لاحتمال استمرار العيش، تُنقذ داس العنف من التشيّؤ، وتُعيده إلى موقعه الأصلي: في صلب العلاقات الاجتماعية، في الجسد، في اللغة، وفي تلك المساحات التي تبدو في ظاهرها “عادية”، لكنها تحمل توتراً بالغاً بين الحياة والموت.

إنّ إسهام فينا داس الجوهري يتمثّل في دعوتها إلى التفكير في إمكانات تكوّن الذات بعد الكارثة، لا عبر تعافٍ بطولي، بل من خلال جهود شاقة وغير مرئية، لصياغة “حياة ممكنة” داخل أنقاض ما كان يُفترض أنه عالم مأهول. وهذه هي “العودة بالكلمات إلى البيت”، التي تقترحها، لا باعتبارها عودةً إلى الطمأنينة، بل كفعل مقاومة صامتة ضد النسيان والتهميش.

الحياة في زمن الإبادة: من شوارع نيودلهي إلى أنقاض غزة

في حرب الإبادة التي يشهدها قطاع غزة، لا يتعلّق الأمر فقط بوقائع القتل والتدمير، بل بانهيار المعنى، بانفلات الكلمات من معانيها، وتحوّلها إلى أدوات قمع أو آليات صمت. على غرار ما حلّلته فينا داس في كتابها “الحياة والكلمات” فإنّ العنف لا يقع فقط كحدث خارجي، بل ينغرس في التفاصيل اليومية، ويتسرّب إلى اللغة، إلى الجسد، إلى العلاقات الاجتماعية، ويعيد تشكيل مفهوم “الحياة العادية”. تُظهر لنا غزة اليوم ما أسمته داس بـ “الانحدار إلى العادي”، أي حين تصبح المجازر حدثاً متكرراً، وحين يتوقّف الموت عن كونه صدمة، ليتحوّل إلى خلفيّة ثابتة ليوميات محاصرة. في صمت الأمهات الغزيّات اللاتي فقدن أبناءهن، في نظرات الأطفال الناجين، في رفضهن للاغتسال أو الابتعاد عن الركام، يتجسّد شكل آخر من الرفض؛ ليس مقاومة خطابية، بل تجسيد حيّ للعجز عن الحداد، عن النسيان، عن “المرور إلى شيء آخر”.

كما في شهادات النساء السيخيات أو الهندوسيات اللواتي استمعت إليهن فينا داس، تمثّل أجساد النساء في غزة اليوم مواقع مقاومة وصمت في آن، حيث ينهار التمييز الساذج بين الاستسلام والتمرّد. فالجسد، حين يُنكَّل به، لا يعود فقط شاهداً على العنف، بل حاملاً له، بلغة الصمت والآلام غير المنطوقة. الكلمات تُصبح “كلمات متوحّشة”، كما تسمّيها داس، لا تكفي لتوصيف ما يحدث، بل ربما تُستخدم لتبريره، أو لتغليفه إعلامياً وسياسياً في لغة فقدت براءتها. في الحالة الفلسطينية، كما في التحليل الذي تقترحه داس حول دور الدولة الهندية في مجازر السيخ، نرى “دولة” استعمارية “إسرائيل” تجمع بين منطق القوة القانونية “الاحتلال والتصنيفات الإدارية والأمنية” ومنطق الأسطورة القومية، وتتحوّل إلى كائن مزدوج: “دولة” نظامية تُصدر أوامر، وتتحكّم بالمساعدات، وفي الوقت نفسه فاعل غوغائي يُؤجّج الشائعات، ويشرعن الإبادة باسم الدفاع عن النفس أو “حقّ الدولة في البقاء”.

لكن وسط هذا الدمار، يُطرح السؤال الذي تطرحه فينا داس: ما دور الباحث، أو المثقف، أو الشاهد؟ هل يجب أن نصمت كي لا نُتهم بتأجيج الصراع؟ هل نحافظ على الحياد حين نرى الأجساد تُمزَّق؟ أم نسعى، كما تقول، إلى “إعادة الكلمات إلى البيت”، أي إلى تخليصها من التوحّش، من خطاب الآلة الحربية، وتغليفها بإنسانية قادرة على إصغاء حقيقي إلى الشهادات، إلى العيون الصامتة، إلى الطفولة المقطّعة، لا بوصفها ضحايا عابرين، بل كفاعلين في سردية من الألم والمقاومة؟ بهذا المعنى، ليست غزة فقط مسرحاً لجريمة، بل مختبراً فظيعاً لتحليل كيف تعمل القوة، وكيف يُبنى العنف من داخل البُنى الاجتماعية والرمزية، وكيف أنّ إعادة بناء الحياة لا تتمّ فقط بإيقاف النار، بل باستعادة اللغة، وإعادة بناء الثقة في المعنى.

فؤاد غربالي – الميادين نت

من السيد المغيب إلى السيد الشهيد

من السيد المغيب إلى السيد الشهيد

على أعتاب موعدنا المتجدد مع الذكرى السنوية السابعة والأربعين لتغييب سيدنا موسى الصدر بتاريخ 31 آب/آب ١٩٧٨، وموعدنا الأول مع الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد سيدنا حسن نصر الله بتاريخ ٢٧ أيلول/أيلول ٢٠٢٤، لا بد لنا من الإضاءة على التجربتين والإحاطة بهما، في محاولة منا لإماطة اللثام عن الواقع والحقيقة، بعيدًا من التضليل والتعمية للرأي العام وعامة الناس من الشعب، لا لأبناء السيد المغيب موسى الصدر والسيد الشهيد حسن نصر الله فحسب.

السيد عبد الحسين شرف الدين العرّاب للمقاومة
ربما يكون صاحب هذا الاسم مجهولًا وغير معلوم بالنسبة للعديد من اللبنانيين. وهو بمنزلة الجندي المجهول. هو سماحة السيد عبد الحسين شرف الدين، المؤسس الأول أو العراب للمقاومة في لبنان.

وهو أيضًا خال سماحة الإمام السيد موسى الصدر. برز دوره في النصف الأول من القرن الماضي، وسطع نجمه، كأحد أهم وأكبر وأعظم النخب والمرجعيات والقيادات التي يدور في فلكها رجال المقاومة والمقاومين، فترعاهم وتؤطرهم وتوجههم، إن في مواجهة الإحتلال التركي العثماني أولًا، أم في مقابل الانتداب الفرنسي ثانيًا.

ولكن المؤرخين وكتب التاريخ في لبنان لم يفوا هذا العالم الجليل وهذا المفكر العظيم والكبير وهذا المرشد الروحي حقه أو شيئًا من حقه، لدى المبادرة للتأريخ وكتابة التاريخ وتدوين الوقائع والحقائق التاريخية.

على أي حال، الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، على رأس علماء جبل عامل في جنوب لبنان، هو المقاوم الأول ضد العدوان والاحتلال، وهو رجل الاستقلال الأول. نقولها للتاريخ والإنصاف، ثم نمضي، بعد أن أدلينا بها ودوّناها، لنضعها هنا بين أيدي القراء من الباحثين عن الحقيقة.

السيد المغيب موسى الصدر الأب الروحي للمقاومة
بعد الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، إبان كل من الاحتلال التركي ثم الانتداب الفرنسي تباعًا، جاء دور الإمام السيد موسى الصدر، إبان الاستقلال والجمهورية الأولى.

تأسس كيان الاحتلال الإسرائيلي، وتجلى التهديد الصهيوني، بل الخطر الصهيوني القائم والواقع ضدنا في لبنان، في مناسبات ومحطات عديدة. وكان أيضًا تقاعس الدولة اللبنانية واضحًا، لا لبس فيه، وكذلك تقصير كل الحكومات اللبنانية المتعاقبة، عن تحمل المسؤولية المرجعية في الدفاع عن لبنان، ولا سيما الجنوب، وحماية أهله.

كان لا بد من هذه المقاومة الشعبية الوطنية، التي أطلقها الإمام السيد موسى الصدر لأجل لبنان ضد “إسرائيل”. وعليه، فإن تجربة حركة أمل، في إشارة إلى كل من حركة المحرومين وأفواج المقاومة اللبنانية، تجربة وطنية، صادقة وشريفة، هي وليدة الإرادة الشعبية الحرة لعموم اللبنانيين، ولا سيما العامليين، الجنوبيين والبعلبكيين معًا. فكان العامليون الجنوبيون رأس الحربة في مواجهة العدو الإسرائيلي؛ وكان العامليون البعلبكيون ظهيرهم وشريكهم في مقاومة العدو الإسرائيلي. وتحملوا الأعباء ودفعوا الأثمان بقصد التحرير الوطني، ولإعادة الإستقلال والسيادة إلى البلد من براثن وغياهب الصهيونية.

السيد الشهيد حسن نصر الله القائد التاريخي للمقاومة
بعد تغييب سماحة الإمام السيد موسى الصدر، ومن ثم تأسيس حزب الله والمقاومة الإسلامية في لبنان، جاءت حقبة سماحة السيد الشهيد حسن نصر الله، الذي خلف سماحة السيد الشهيد عباس الموسوي في الأمانة العامة وعلى رأس القيادة للحزب والمقاومة.

وقد بقي في منصبه هذا حتى اغتياله، كأطول مرحلة زمنية، بحيث تمكن خلالها من مأسسة المقاومة، بتنظيميها السياسي والعسكري، وليكون وليصبح على هذا النحو القائد التاريخي للمقاومة في البلد وفي المنطقة.

لقد كان حلمًا جميلًا، بل رائعًا، بالنسية إلينا وإلى جيلنا، كما كان قبله السيد موسى الصدر، بالنسبة إلى الجيل الذي قبلنا. وقد وصلت معه المقاومة إلى نقطة الذروة، ليترك بصمة لا تُمحى، ولا تُنسى. وبات صعبًا بعده، بالتأكيد وبطبيعة الحال، ملء الفراغ الذي تركه فراقه وغيابه باستشهاده.

إلا أن هذه المقاومة أصبحت ركنًا أساسًا ورئيسًا في المعادلات الداخلية والوطنية، كما في المعادلات الخارجية والإقليمية. وهي تحمل اسمه هو، أي السيد الشهيد حسن نصر الله، ومعه اسم السيد المغيب موسى الصدر. وتبقى من بعدهما تجربة المقاومة بأطوارها، وكذلك سردية المقاومة في لبنان وإلى فلسطين.

المقاومة بين الثنائية الشيعية والتعددية الوطنية والقومية
لم تكن المقاومة يومًا حكرًا على ثنائي الحركة والحزب، والمقصود الثنائي الوطني أو الثنائي الشيعي للمقاومة. لا أحد يدعي ذلك، أو يمكنه أن يدعي ذلك.

المقاومة في لبنان ضد “إسرائيل” إنما دخلت طورًا جديدًا مع الإمام السيد موسى الصدر في غمار مسار تطورها وتراكمها التاريخيين. كذلك، المقاومة في لبنان ضد “إسرائيل” اتخذت زخمًا جديدًا وسلكت بعدًا جديدًا واقتحمت حيزًا جديدًا مع السيد حسن نصر الله في سياق مشهدية صعودها السياسي، والعسكري، والشعبي والتاريخي.

لكن المقاومة كانت قبل تجربتي هذا الثنائي الشيعي من الحركة والحزب؛ كما أنها باقية معهما، وربما بعدهما أيضًا. فهي تعبير عن مشروع وطني، وخيار وطني ورهان وطني.

وهي جامعة، شارك أو أسهم فيها الكثير من القوى الحية في البلد والمجتمع والشعب، كالتحرريين، والتقدميين، واليساريين، والشيوعيين، والاشتراكيين، والناصريين، والبعثيين، والوطنيين، والقوميين العرب، والقوميين السوريين، والإسلاميين، والمسيحيين وغيرهم. وهي مستمرة وباقية، قد ينخرط فيها، أو قد ينضوي فيها، الكثير من الشرفاء الأحرار، ذلك أن “شرط الحرية المقاومة، كحتمية تاريخية، لا بد منها، لم تنهزم ولن تنهزم”، بحسب العميد جورج إبراهيم عبد الله لشبكة الميادين الإعلامية.

مما لا شك فيه أن سيدنا المغيب موسى الصدر شخصية تاريخية، لا تتكرر، وأن سيدنا الشهيد حسن نصر الله شخصية استثنائية، لا مثيل لها، ولا نظير لها. وهما ليسا شخصيتين عامّتين، وإنما تجربتان متجسدتان لمدرسة واحدة، وأيقونتان أمميتان، تتخطيان وتتتجاوزان بلدنا وأمتنا ومنطقتنا.

نحن أمام قيمتين إنسانيتين، متجددتين ومتجذرتين وخالدتين. وهما عنوانان لفكر واحد، باقيان في قلوبنا وعقولنا وأذهاننا ونفوسنا وأرواحنا: نحن أبناء موسى الصدر وحسن نصر الله.

غسان ملحم – الميادين