تشهد المجتمعات المعاصرة تحولات جذرية بفعل الثورة الرقمية وما أفرزته من أنماط جديدة للتواصل والإنتاج والتلقي. إذ لم يعد الفضاء الافتراضي مجرد امتداد للواقع الاجتماعي، بل فضاء موازي يعيد تشكيل القيم والاتجاهات والأولويات. ومن أبرز الظواهر التي برزت في هذا السياق ما يُعرف بـ “الترند” Trend، أي الموضوعات أو القضايا أو الأحداث التي تحظى بزخم غير مسبوق في التداول خلال فترة زمنية قصيرة، لتصبح محدداً أساسياً للنقاش العام وصانعة لاتجاهات الرأي الجمعي.
لم يعد مفهوم “الترند” مقتصراً على مجرد مؤشر رقمي لقياس التفاعل في منصات التواصل الاجتماعي، بل تحوّل إلى ظاهرة ثقافية واجتماعية ذات أبعاد متشابكة، ووسيلة للتأثير في الرأي العام، بل وميدان لتشكيل الهوية الفردية والجماعية. تتضاعف أهمية دراسة هذه الظاهرة بالنظر إلى تأثيرها المباشر في أنماط التفكير والسلوك، حيث صارت “الترندات” تختزل النقاشات العامة في موجات قصيرة الأمد، يتلاشى أثرها سريعاً لتفسح المجال أمام موجة أخرى. ومع الصعود والاختفاء تُثار تساؤلات تتعلق بكيفية صناعة “الترند”، وهل قوته تتوقف على الشخصيات التي يتناولها؟، ثم هل هناك معايير مستقبلية تتعلق بأخلاقياته؟
إذا كانت هذه الظاهرة قد باتت جزءًا من الحياة اليومية عالميًا، فإنها اكتسبت خصوصية في السياق المصري من خلال أمثلة متعددة، لعل أبرزها ما عُرف إعلاميًا وشعبيًا بقصة “فتاة الشيبسي”. هذه القصة تكشف الكثير عن ديناميكيات صناعة “الترند” في مصر، وعن آلياته وأبعاده الاجتماعية والثقافية والسياسية. إذ تعيد الخوارزميات تشكيل أولويات النقاش، ويتحول الحدث العابر إلى قضية رأي عام، مما يدل على قوة الفضاء الرقمي في فرض أجندته على المجال العام.
وفي ظل هذه التحولات، بات من الضروري تقديم قراءة سوسيولوجية تسعى إلى تفكيك الظاهرة من جوانبها النظرية والعملية، وانعكاساتها على المجتمعات، خصوصًا في السياق المصري، لا سيما وأنها تحمل دلالات عميقة تتعلق بآليات إنتاج المعنى، وإعادة تشكيل العلاقة بين المتلقي والمحتوى في الإعلام. ومن ثم يبرز التحدى أمام المجتمعات والدول في كيفية إدارة هذه الظاهرة بما يحقق التوازن بين حرية التعبير ومتطلبات الأمن المجتمعي.
ظاهرة ” الترند”: المفهوم والأبعاد يعد “الترند” ظاهرة تتجاوز كونها مجرد وسم شائع على منصة اجتماعية؛ فهي مرآة لتحولات عميقة في الثقافة والمجتمع. فهو يعكس قوة التكنولوجيا في إعادة تشكيل المجال العام لكنه في الوقت ذاته يكشف عن مخاطر السطحية، والتضليل، وثقافة القطيع.
لغويًا، يرتبط مصطلح “الترند” Trend بالاتجاه السائد أو الميل العام. أما إجرائيًا، فيشير في البيئة الرقمية إلى أكثر الموضوعات رواجًا وتداولًا على منصات التواصل الاجتماعي خلال فترة زمنية قصيرة، سواء عبر وسم (Hashtag) أو فيديو أو صورة أو حتى جملة عابرة.
لا يُعد “الترند” مفهومًا أحادي الدلالة؛ فهو يجمع بين معانٍ تقنية تتعلق بخوارزميات المنصات، وأبعاد اجتماعية ترتبط بكيفية تشكّل الرأي العام. فمن الناحية التقنية، يُقصد بـ”الترند” الموضوعات الأكثر تداولًا في فترة زمنية محدودة، حيث تُصنّفها الخوارزميات بناءً على حجم التفاعل وسرعته ونطاقه الجغرافي. أما من الناحية الاجتماعية، فـ”الترند” هو لحظة جماعية ينخرط فيها الأفراد بشكل متزامن، عبر التفاعل أو المشاركة أو حتى المعارضة، بما يمنحه طابعًا احتفائيًا أو صراعيًا في آنٍ واحد. بينما في السياق الإعلامي، يُنظر إلى “الترند” بوصفه مزيجًا من تفاعل المستخدمين وتدخل الخوارزميات التي تضخّم بعض المحتويات وتهمّش أخرى، وهو ما يجعل “الترند” ظاهرة مركّبة، تجمع بين البعد التلقائي المرتبط بالجمهور والبعد المصطنع الذي تفرضه المنصات أو الجهات المنظمة.
في الأدبيات الغربية، يُربط “الترند” عادة بمفهوم “اقتصاد الانتباه”، حيث تتنافس المنصات الرقمية على جذب انتباه الأفراد عبر تضخيم موضوعات معينة. أما في الأدبيات العربية، فقد بدأ الاهتمام بـ”الترند” من زاويتين: الأولى إعلامية تعتبره مؤشرًا لقياس اتجاهات الرأي العام، والثانية نقدية ترى فيه آليه لتسطيح النقاش العام وحصره في قضايا ثانوية أو مفتعلة. وبالتالي فإن “الترند” هو نقطة التقاء بين منطق الخوارزميات ومنطق الجماعة، حيث يلتقى “ما تريد المنصة دفعه” مع “ما يريد الناس التعبير عنه”.
ويمكن قراءة ظاهرة “الترند” في ضوء عدد من المداخل النظرية الآتية:
نظرية انتشار الابتكارات (Diffusion of Innovations – Rogers, 1962): تفسر هذه النظرية كيف تنتشر فكرة أو مآذارة أو منتج داخل المجتمع عبر قنوات اتصال معينة، وفي فترة زمنية محددة. ويمكن النظر إلى “الترند” كابتكار رمزي ينتشر بسرعة استثنائية بفعل خصائصه: حداثة الفكرة، جاذبية الشكل، وقابلية التقليد.
الفضاء العام (Public Sphere – Habermas, 1989): يرى هابرماس أن الفضاء العام هو مجال للنقاش العقلاني الحر، لكن مع التحول الرقمي تحوّل هذا الفضاء إلى بيئة يغلب عليها الطابع الفوري والسطحي. فـ”الترند” يمثل تشويهًا للفضاء العام، إذ يختزل النقاش في موجة قصيرة العمر، يغيب عنها العمق والحجج.
العدوى الاجتماعية (Social Contagion – Tarde, 1901): طرح غابرييل تارد فكرة انتقال الأفكار والسلوكيات عبر “العدوى”، وهو ما يتجلى في “الترند” حين يتبنى الأفراد سلوكًا رقميًا معينًا (إعادة نشر، تعليق، مشاركة) لمجرد أنه شائع، دون تفكير نقدي.
اقتصاد الانتباه (Attention Economy – Davenport & Beck, 2001): في ظل وفرة المعلومات، يصبح الانتباه موردًا نادرًا، وتتنافس المؤسسات والأفراد على الظفر به. “الترند” هو الأداة المركزية في هذا الاقتصاد، حيث يُباع ويُشترى الاهتمام عبر الترويج المدفوع، والإعلانات، أو حتى الحملات السياسية.
هذه الأطر تضع الترند في قلب النقاش حول العلاقة بين التقنية والثقافة، وتمنحنا أدوات لفهم آلياته وآثاره بما يعكس ديناميكية جديدة في توجيه الانتباه العام.
آليات صناعة “الترند” تمثل صناعة “الترند” عملية معقدة تتداخل فيها أبعاد تقنية واقتصادية وسياسية واجتماعية، إذ لم يعد “الترند” نتاجًا عفويًا لإرادة الجمهور فحسب، بل صار انعكاسًا لتوازنات دقيقة بين الخوارزميات، واستراتيجيات المنصات الرقمية، والمصالح الاقتصادية والسياسية.
1- الخوارزميات: أول هذه الآليات يتمثل في الخوارزميات، وهي الأنظمة الحسابية التي تدير عملية ترتيب المحتوى وإبرازه. فالمنصات الكبرى مثل “X” و”فيسبوك” و”تيك توك” لا تعرض للمستخدمين كل ما يُنشر، بل تختار وفق معايير معقدة تستند إلى التفاعل، والزمان، والمكان، وملامح السلوك الرقمي لكل فرد. هذه الخوارزميات تمتلك قدرة على توجيه الانتباه الجمعي، بحيث تجعل من بعض الموضوعات قضايا كبرى بينما تدفع بغيرها إلى الهامش.
2- الاقتصاد الرقمى: والذى يقوم على ما يُعرف بـ”اقتصاد الانتباه”. ففي عالم تتزايد فيه وفرة المعلومات، يصبح انتباه المستخدمين هو المورد الأكثر ندرة، ومن ثم تتحول القدرة على صناعة “الترند” إلى سلعة عالية القيمة. فالمؤثرون، والشركات، وحتى المؤسسات الإعلامية، يستثمرون في “ترندات “مدفوعة بغرض الحصول على أكبر قدر ممكن من التفاعل الذي يُترجم لاحقًا إلى أرباح مالية أو نفوذ اجتماعي.
3- التوظيف السياسى: تدرك الحكومات، والأحزاب، والجماعات المنظمة أن “الترند” يمكن أن يكون أداة لتشكيل الرأي العام، ويبرز هنا ما يُعرف بـ “اللجان الإلكترونية” (Astroturfing) التي تُستخدم لإطلاق وسوم وتكرارها بشكل مكثف حتى تتحول إلى “ترند”.
4- الرأسمال الاجتماعى والرمزى: يرتبط “الترند” بآلية اجتماعية رمزية تتمثل في الرأسمال الاجتماعي والرمزي. فالأفراد الذين ينجحون في إشعال “ترند” ما يكتسبون مكانة معنوية وسط دوائرهم الافتراضية، وهو ما يمنحهم شرعية قد تتجاوز العالم الرقمي إلى الواقع، لتتحول إلى نفوذ اقتصادي أو سياسي.
التأثيرات الإيجابية والسلبية للتريند مما لا شك فيه أن “الترند” يمكن أن يكون له تأثير إيجابي وسلبي متعدد الأوجه؛ حيث يمكن لبعض “الترندات” الإسهام في تطور المجتمع ورفع مستوى التوعية، في حين يمكن لأخرى أن تسبب فوضى أو اضطرابات اجتماعية. ومن ثم، فإن “الترند” هو جزء من حياتنا اليومية، وفهم أنواعه وتأثيراته يساعدنا على التفاعل معه والتكيف مع التغيرات المحيطة بنا.
من التأثيرات الإيجابية أن “الترند” قد يسهم في خلق بيئة اجتماعية مبتكرة وحديثة من خلال تطوير المهارات والثقافة، أيضًا تمكين الأفراد، حيث يتيح للمستخدم العادي أن يكون جزءًا من صناعة النقاش العام، وهو ما يتجاوز مركزية الإعلام التقليدي، هذا إلى جانب سرعة الوصول للمعلومة في حالات الكوارث الطبيعية أو الأزمات الإنسانية، ومن ثم يسهم “الترند” في إيصال الأخبار بسرعة، بل وأحيانًا في إنقاذ الأرواح. فضلاً عن قدرة “الترند” على إبراز القضايا المهمشة مثل حملات الدفاع عن حقوق المرأة أو قضايا البيئة.
رغم ما يوفره “الترند” من فرص، فإنه يكشف في المقابل عن جملة من التحديات والمخاطر؛ أول هذه المخاطر هو سطحية المحتوى؛ فـ”الترند” يقوم على معايير السرعة والجاذبية البصرية واللفظية، وهو ما يعزز منطق الموجز والمثير على حساب العمق والتحليل. وبذلك تتحول القضايا المعقدة إلى شعارات مختزلة تفتقر إلى السياق والمعنى. وثانيها ثقافة القطيع، حيث ينساق الأفراد وراء ما هو شائع لمجرد أنه يحظى بالانتشار، بغض النظر عن قيمته أو صدقه. وهذا ما يعبر عنه علماء النفس الاجتماعي بـ”تأثير العربة” (Bandwagon Effect)، الذي يضعف من استقلالية التفكير الفردي.
أيضًا يمثل التضليل وانتشار الأخبار المغلوطة ثالث المخاطر؛ فسرعة الانتشار وقدرة الوسوم على التحول إلى موجة عامة تجعل من السهل ترويج الشائعات أو المعلومات المضللة، الأمر الذي قد يهدد السلم الاجتماعي ويقوّض الثقة. كما قد يؤدي “الترند” إلى تآكل المعنى بسبب سرعة تداوله، وتصبح القضايا مجرد “موجات عابرة” سرعان ما يطويها النسيان، مما يُفقدها عمقها الإنساني والسياسي.
ولا تقل خطورة الآثار النفسية، حيث يؤدي الانغماس في متابعة “الترند” إلى الخوف من أن يفوتك شيء (FOMO)، وإلى ضغوط نفسية متزايدة نتيجة المقارنة المستمرة بالآخرين. وقد أظهرت دراسات حديثة أن المراهقين والشباب هم الفئة الأكثر تأثرًا بهذه الضغوط، مما يزيد من حدة القلق والاكتئاب لديهم لمجرد البقاء خارج دائرة الضوء.
أما على المستوى الاجتماعي، فإن “الترند” يسهم في ظهور ما يمكن تسميته بـ”القبائل الرقمية”؛ وهي جماعات مؤقتة تتشكل حول قضية معينة أو وسم محدد. هذه القبائل تعكس تماسكًا لحظيًا، لكنها سرعان ما تتفكك بانطفاء الزخم الرقمي، مما يعكس هشاشة الروابط الاجتماعية في الفضاء الرقمي مقارنة بالمجتمع الواقعي.
وبالتالي لا يمكن فهم ظاهرة “الترند” بمعزل عن أثرها النفسي والاجتماعي في الأفراد والجماعات. فمن منظور علم النفس الاجتماعي، يمثل “الترند” تجسيدًا معاصرًا لما يُعرف بـ”ديناميات الجماعة”، حيث يتحدد السلوك الفردي إلى حد كبير وفق ما هو شائع ومقبول داخل الجماعة الرقمية. هذا ما يُفسَّر من خلال نظرية “دوامة الصمت” (Spiral of Silence) التي تفيد بأن الأفراد يميلون إلى مسايرة الرأي الغالب خشية العزلة أو التهميش.
بشكلٍ عام، يمكن القول إن “الترند” له تأثير كبير على منصات التواصل الاجتماعي، سواء كان إيجابيًا أو سلبيًا. ويجب على المستخدمين أن يكونوا حذرين ومسئولين عن المحتوى الذي يشاركونه والأفكار التي يروجون لها.
“الترند” والأمن المجتمعي يتجاوز أثر “الترند” حدوده الرقمية ليصل إلى الأمن المجتمعى. إذ يمكن أن يتحول من وسيلة للتعبير الحر إلى أداة لإثارة الفوضى والتوتر الاجتماعي، فبسبب سرعته وانتشاره قد يؤدى إلى تضخيم بعض القضايا، وتأجيج التوترات الطائفية أو السياسية، كما أن نشر الشائعات عبر “الترند” يمكن أن يُقوِّض الثقة في المؤسسات الرسمية. وفى بعض الحالات يصبح “الترند” أداة للتعبئة غير المنضبطة التي قد تترجم إلى احتجاجات أو سلوكيات غير قانونية.
وتظهر الدراسات أن “الترند” يلامس حاجات أساسية لدى الإنسان، مثل الرغبة في الانتماء والشعور بالمشاركة في حدث جماعي. إلا أن هذا الانتماء اللحظي قد يكون هشًا، لأنه قائم على التفاعل الرقمي أكثر من العلاقات الواقعية. كما أن المشاركة في “الترند” قد تتحول إلى وسيلة لإشباع حاجات نرجسية، مثل السعي وراء اللايكات وإعادة التغريد، ما يجعل الفرد أسيرًا لمنطق المنصة أكثر من كونه فاعلاً حرًا. وعلى المستوى الاجتماعي، يؤدي “الترند” إلى إعادة إنتاج التراتبية بين “المؤثرين” و”المتابعين”، ما يعكس أشكالاً جديدة من اللامساواة الرمزية.
من يراقب نفسه وسط عاصفة “الترند” يلاحظ أن هويته الذاتية بدأت بالتلاشي، حيث أصبحت تتشكل حسب ما هو رائج في الملبس والمأكل وكل جوانب الحياة اليومية. إن “الترند” ليس إلا مرآة للقلق الجماعي؛ القلق من الغياب والنسيان، فكل إنسان يسعى دائمًا إلى المركزية ويخشى أن يكون في الهامش لا يراه أحد ولا يتحدث عنه أحد. ومن يعجز عن تحقيق نجاحات ملموسة في مجاله سيجد العالم الرقمي في استقباله، حيث سيجلب له أنظار الجميع بأقل مجهود، وسيصبح حديث الساعة. ولا يهمه نوع تلك الأنظار؛ معجبة أو مستهجنة، ما دامت أنها تنظر إليه وتجلب له عدد مرات إعجاب أكثر، لا تحقق فقط شهرته بل أموالًا قد تغير من حياته.
إن قوة “الترند”، أو استمراره، تعتمد بشكل أساسي على الشخص أو المصدر الناشر للمحتوى. كما أنه لا توجد معايير واضحة وقاطعة لتنظيم المشهد على منصات التواصل الاجتماعي وتحديد كيفية السيطرة على الآثار السلبية لصعود أي “ترند”. هناك ما يسمى التماهي الاجتماعي، وهو أن يسعى الشخص إلى التماثل في التوجهات والسلوك والأفكار مع المعتاد اجتماعيًا. ومن هنا تأتي قوة “الترند”، إذ يتبناه المشاهير أو المؤثرون، ثم يتبعهم الراغبون في التماثل أو التشابه مع السائد اجتماعيًا، وبالتالي، مع زيادة عدد المُقلدين تزداد قوة “الترند” وينمو تأثيره.
البدائل الممكنة تعد ظاهرة “الترند” من الموضوعات التى أثارت الجدل فى الأوساط المجتمعية، كونها أثرت بشكل كبير فى سلوكيات الشباب ما بين التقليد تارة والنقد تارة أخرى، فقد برزت العديد من الإشكاليات حول أهداف هذه “الترندات” ومدى تأثيرها على البنية الثقافية، وقد أدى المحتوى الرائج إلى حدوث فجوة فكرية بين الشباب وزيادة حدة الخلاف بينهم، وضعف الروابط الاجتماعية والعزلة الاجتماعية، كما أنها أثرت بشكل كبير فى مكونات الثقافة وعلى رأسها اللغة العربية، حيث أن “الترند” المشاهد يساعد على استبدال اللغة العربية الفصحى باللهجة العامية، كما أن “الترند” أصبح أمرًا واقعيًا يتم صناعته فقط لتحقيق عدد أكبر من المشاهدات، دون النظر إلى المحتوى وهو ما يؤدى بدوره أحيانًا إلى حدوث الأزمات وخلق الأكاذيب وترويج الشائعات، على نحو يؤثر بشكل كبير على تغيير اتجاهات الجمهور وإعادة تشكيلها.
إن المقاربة السوسيولوجية لـ”الترند” تفرض علينا النظر إليه كجزء من بنية أوسع هي بنية الإعلام الرقمي والفضاء العام. وبالتالي، فإن التعامل مع الظاهرة لا ينبغي أن يقتصر على رفضها أو الاحتفاء بها، بل على تطوير وعي نقدي بها. وهنا يبرز عدد من البدائل الممكنة:
1- تعزيز التربية الإعلامية الرقمية: من خلال إدماج مفاهيم التفكير النقدي ومهارات التحقق من الأخبار في المناهج التعليمية، حتى يصبح الجيل الجديد قادرًا على التفاعل الواعي مع “الترند” بدلاً من الانسياق وراءه.
تشجيع الإعلام المهني على التوازن: عبر استثمار “الترند” كمدخل لطرح نقاشات أعمق، بدلاً من الاكتفاء بإعادة تدويره. ويمكن للمؤسسات الإعلامية أن تلعب دور “المُفسِّر” لا مجرد “الناقل”.
2- تطوير منصات بديلة: تقوم على نماذج خوارزمية أكثر شفافية، تعطي الأولوية للمحتوى ذي القيمة الاجتماعية والمعرفية، بدلاً من الاقتصار على المحتوى الأكثر إثارة.
3- المسئولية المجتمعية للأفراد: إذ يتحول المستخدم من “مستهلك للمحتوى” إلى “مشارك مسئول” يوازن بين حرية التعبير وبين احترام الخصوصية والكرامة الإنسانية.
4- إعادة الاعتبار للفضاء العام الواقعي: فالاعتماد المفرط على “الترند” يهدد أحيانًا الحوار المباشر في المجال العام التقليدي. ومن ثم فإن تعزيز قنوات المشاركة الواقعية (النقابات، الجمعيات، الفضاءات الثقافية) يحد من هيمنة “الترند” كأداة وحيدة للتأثير.
من خلال هذه البدائل، يمكن مقاربة “الترند” لا كظاهرة سلبية بالكامل، بل كفرصة تحتاج إلى إدارة رشيدة، تحولها من “أداة للتلاعب والانفعال” إلى “أداة للوعي والمشاركة”.
وبهذا المعنى، فإن مستقبل الظاهرة لن يُحسم بخوارزميات المنصات وحدها، بل بقدرة المجتمعات على تطوير ثقافة رقمية ناضجة قادرة على استيعاب التحولات دون أن تفقد المعنى أو تستسلم للسطحية والتضليل. من هنا، تكمن المسئولية في بناء وعي نقدي يتجاوز الانبهار باللحظة، ويعيد الاعتبار للمعنى والعمق.
ختامًا، تُظهر ظاهرة “الترند” في العصر الرقمي تعقيدًا بالغًا، فهي ليست مجرد انعكاس لتقنية جديدة، بل تجسيد لتحولات عميقة في الوعي الجمعي والمجال العام. فمن ناحية، أتاحت هذه الظاهرة فرصًا غير مسبوقة للمشاركة المجتمعية، ولإبراز قضايا كانت مهمشة، وتشكيل العقل الجمعى، ومن ناحية أخرى طرحت مخاطر كبيرة تتعلق بالتضليل والتنمر وتسطيح النقاش العام. والمقاربة السوسيولوجية تكشف لنا أن “الترند” هو ساحة صراع رمزي بين الأفراد والجماعات والدول والمنصات، وأن فهمه يتطلب إدراك هذه الأبعاد المتشابكة. وعليه، فإن التحدي الحقيقي لا يكمن في إيقاف “الترند”، بل في كيفية تطوير ثقافة نقدية وأخلاقية قادرة على التعامل معه بوعي ومسئولية، بما يحفظ حرية التعبير ويصون في الوقت نفسه التماسك الاجتماعي.
د. إيمان مرعي – مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية
بمُناسبة الذكرى السابعة والأربعين لاستشهاد غسان كنفاني، أعادت “بوابة الهدف”، في 9تموز 2019 نشر مقال من الأرشيف بعنوان “الحلف السري بين السعودية وإسرائيل”.
اتفق الأمير فهد مع شاه إيران في واشنطن على اقتسام الخليج العربي ما هي حقيقة الوجود العسكري البريطاني الأمريكي في شبه الجزيرة؟
لا يتمثّل التواطؤ غير المكتوب بين السعودية وإسرائيل فقط في حقيقة أنّ النفط العربي يضخ من السعودية إلى الشرايين الأوروبية تحت الحماية الإسرائيلية، بثمنٍ يدفعه النظام السعودي نقداً، لجعل إسرائيل قادرة على توفير حماية أفضل في الأرض السورية المحتلة لمصالح الإمبريالية، ولكن يتمثّل أيضاً في الأنباء التي تقول أنّ “الأرامكو” بالاتفاق مع الحكام السعوديين وافقت سراً على إعطاء إسرائيل ما قيمته (20) مليون دولار كعائدات على مرور النفط السعودي في الأراضي المحتلة.
ومع ذلك، فإنّ هذين الأمرين ليسا سوى نتيجةً لواقعٍ أكثر عمقاً وتعقيدًا. ومن قصر النظر الاعتقاد بأنّهما جاءا مقطوعي الصلة بأسباب وارتباطات موضوعيّة تجعل من مجمل ما يحدث، على المدى القصير وعلى المدى الطويل، تعبيراً عن حلفٍ سريّ غير مكتوب ولكنه موضوعياً قائمٍ فعلاً، بين النظام السعودي وبين إسرائيل.
وباختصار نستطيع أن نُوجز ذلك الحلف السري غير المكتوب بأنه يتركز في إستراتيجية الاستعمار الإمبريالية، المُسماة بإستراتيجية شرق السويس، فإذا كانت إسرائيل تلعب في تلك الإستراتيجية دور أحد فكّي الكماشة فإنّ السعودية تلعب في الجهة المقابلة دور فك الكماشة الآخر.
وهذا العنوان يفترِض إلقاء نظرة تفصيليّة على كثير من الجزئيات التي تحدث، والتي لا يمكن فهمها على حقيقتها إن لم تُوضع في سياق ذلك العنوان، من قضية الحلف الإسلامي الذي انتهى مع ولادة ممسوخة في الرباط، مروراً بقضيّة الخليج العربي والانسحاب البريطاني المُنتظر إلى البراقع السعودية المُزيّفة، المُسماة بدعم الصمود العربي ودعم الفدائيين، إلى العدوان على جمهورية اليمن الجنوبية، إلى الموقف المعروف من مؤتمر القمة الأخيرة، نهايةً بخطط السعودية في المستقبل في شبه الجزيرة، والتي لا تبدو مُمكنة بغير المخططات الإسرائيلية الراهنة.
يقول التقرير السري الخارجي الذي توزعه “الإيكونومست” البريطانية على نطاقٍ محدود، في النشرة التي كان تاريخها 18 كانون الأول الماضي، أنّ المعارك التي نشبت في منطقة الوديعة بين السعودية وجمهورية اليمن الجنوبية كانت أكثر عنفًا مما تصوّر العالم، وكشفت النقاب عن أن القوات السعودية استخدمت على نطاقٍ واسع طائرات “اللايتنتننغ” التي وفرتها لها بريطانيا في اتفاقية وُقعت بين الرياض ولندن قبل 4 سنوات.
والواقع أنّ مشكلة الصدامات العسكرية في منطقة الوديعة تختلف كليًا عن صدامات الحدود التي تفجّرت في أكثر من مكان في البلاد العربية، فالنزاع هنا ليس بالدرجة الأولى خلافًا على تخطيط الحدود، أو حول السيطرة المباشرة على قيمة اقتصادية أو استراتيجية محددة، لكنّها تتعلق بمجمل الصراع ذي الطبيعة الصدامية بين النظام السعودي الرجعي وبين البؤرة الثورية الفاعلة والمؤثرة، التي يمثلها وجود جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية.
وما يجعل الصورة أكثر حدة الآن مما كانت عليه في أي وقتٍ مضى، هو مجموع التطورات التي حدثت والآخذة بالحدوث في المنطقة: فهزيمة الأنظمة العربية الوطنية في معركة حزيران 1967، والظروف بالغة الصعوبة– التي ما تزال وستظل إلى فترة طويلة- تقيد حركتها وتحاصرها، تشكل بالنسبة إلى النظام السعودي الذي رشح نفسه فورًا لقيادة الهجوم المعاكس على مختلف التيارات التقدمية والوطنية في المنطقة، فرصة مناسبة مدعّمة بالمصالح الإستراتيجية والاقتصادية للولايات المتحدة، للانقضاض من جديد “ولتصفية حساباتها”.
والانسحاب البريطاني من الخليج العربي المقرر في 1971، يجعل إلحاح الظروف التي تجدها السعودية مناسبة لبسط نفوذها على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية، أكثر قوة الآن مما كانت في أي وقتٍ مضى، ووسط ذلك كله، تشكل الصفقة التسلّحية التي عقدتها السعودية مع الولايات المتحدة وبريطانيا بما قيمتها 500 مليون جنيه، حافزًا يصعد بسرعة مع بداية وصول الدفاع والتجهيزات الأولى لتلك الأسلحة، الدور السعودي في منطقة شبه الجزيرة العربية وفي المناطق المحيطة بها.
إنّما يشغل بال السعودية –فوق ذلك كله ومع ذلك كله-، هو ما عبر عنه تقرير “الإيكونومست” السري بما يلي: “في جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، اتضح تأثير السوفيات والصينيين، وفي جمهورية اليمن يوجد تأثير سوفياتي ومصري، وفي العراق تتربع في السلطة حكومة بعثية مناهضة بعنف للملَكية، وحتى بالخليج العربي ذاته، فإن ما يسمى (جبهة تحرير الخليج العربي المحتل)، التي تركّز مركز قيادتها في العراق، لها كما يُقال خلايا ناشطة في البحرين”.
وبغض النظر عن أسلوب “الإيكونومست” في وصف الأخطار المحيطة بالسعودية وانحياز اصطلاحاتها الوصفية لتلك الأخطار إلى الجانب السعودي، إلّا أن الحقيقة هي أن السعودية لا تستطيع أن تتمدد في شبه الجزيرة العربية على فراش نظامها الرجعي الوثير، في وقتٍ تضطرم فيه تغيرات اجتماعية وسياسية ثورية في الجنوب اليمني، وفي وقتٍ تتصاعد فيه باضطراد الثورة المسلحة التي تقودها الجبهة الشعبية لتحرير ظفار.
ويوضح تقرير “الإيكونومست” السري هذه الحقيقة عبر الأسلوب التالي: “ان السعودية لا تريد أن ترى دولةً عند حدودها الشرقية، في إمارات الساحل العُماني، تسبب لها المتاعب، في وقتٍ لديها ما يكفيها من هذه المتاعب في الشمال والجنوب، فاتحاد إمارات الخليج لا يشكل منافسًا في نطاق القوة السياسية فحسب، بل يوفر جوًا ممكنًا لنمو تنظيمات مضادة للملكية في أمكنة أخرى من الجزيرة العربية.
محور التخطيطات السعودية ذلك كله –على أيّ حال- يطرح واحدة من أعقد المشاكل الراهنة في العالم العربي وأكثرها سخونة، وموازية في جميع الأحوال مع الصراع المحوري الدائر بين العرب وإسرائيل، ومن قُصر النظر بالطبع، اعتبار المسألتين مقطوعتي الصلة ببعضهما.
إنّ حقائق الإستراتيجية السعودية- إذا جاز إعطاء الموضوع هذه الصفة لأن الإستراتيجية هذه هي في الحقيقة إستراتيجية الإمبريالية في منطقة شرق السويس- هي ذاتها التي انعكست في الصِّدامات المسلحة بين السعودية وجنوب اليمن في منطقة الوديعة وشرورة، وهي ذاتها التي انعكست في الدور السعودي– الإيراني، “المتسق ولكن غير المنسق، إلى الآن، تمامًا”، في تطورات قضية اتحاد إمارات الخليج العربي، بل إنها هي ذاتها التي انعكست بصورة أوضح على الموقف السعودي في مؤتمر الخرطوم (أيلول 1967) وهي التي تمتد انعكاساتها إلى أبعد من ذلك في الحقيقة، تمتد إلى صفقة إيرانية – سعودية، عُقدت بين الأمير فهد وشاه إيران في واشنطن، بمباركة البيت الأبيض عند زيارتهما للبيت الأبيض.
وتمتد أيضًا إلى تأثير متزايد نحو “توريط” العراق في المسألة الكردية، وتمتد أيضًا إلى محاولات تتصاعد باضطراد لتصفية الوجود الثوري لجمهورية اليمن الجنوبية، ليس فقط بالعمل التآمري، ولكن بالقوة العسكرية المباشرة أيضًا.
وتمتد أيضًا إلى اضطّرار سعودي– مباشر أو غير مباشر- للتنصّل العملي من مسؤولية المعركة المتحدمة بهذا القدر أو ذاك، ضد العدوان الإسرائيلي، لأنّ عدم حسم تلك المعركة يشكّل بالنسبة للسعودية ليس فقط إذعانًا للمخططات الإمبريالية التي باتت تمثل طرفًا لا ينفصم من أطرافها، ولكن أيضًا لأن “تثبيت” الحركة الوطنية العربية في مأزقها الراهن هو فرصة سعودية لتحقيق أهدافها التقليدية.
ما هي إستراتيجية شرق السويس؟ إلّا أنه قبل المضي في تحليل ذلك كله، لا بد من إلقاء نظرة موضوعية على ما يُسمى اصطلاحًا بالإستراتيجية الإمبريالة المقررة لشرقي السويس، كي نتبين موقع السعودية في خارطة هذه الإستراتيجية، وبالتالي دورها الحالي والمحتمل في مجمل تطورات أحداث المنطقة.
من المعروف أنه في أواخر عام 1965 تم الاتفاق بين بريطانيا والولايات المتحدة على توحيد السياسة الإستعمارية للبلدين في قارتي آسيا وأفريقيا، وخصوصًا في البلدان العربية الغنية بالنفط، وذلك من أجل التعاون والمشاركة في أعباء الدفاع عن المصالح الأنجلو- أمريكية، وفق ما صار يصطلح على تسميته بإستراتيجية شرق السويس الجديدة.
لتحقيق هذه الإستراتيجية الموحدة، جنّدت مجموع القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية لتلعب دور “الحزام” الإمبريالي:
فهناك مجموعة قواعد بريطانية وأمريكية جديدة تم بناؤها في “جزيرة كوكوس” وفي “جزيرة ديجو جارسيا” وجزيرة “الدابرا” وجزيرة “سيشل” في المحيط الهندي. وتقع هذه القواعد في منتصف المسافة تقريبًا بين القواعد البريطانية والأمريكية في سومطرة وماليزيا والفلبين وسنغافورة في آسيا، والقواعد الأمريكية والبريطانية في الحبشة وكينيا في شرق أفريقيا.
وترتبط سلسلة القواعد هذه بسلسلة أخرى ذات أهمية خاصة من القواعد العسكرية البريطانية والأمريكية، تمتد من خليج عدن ومدخل البحر الأحمر، ثم على طول ساحل عُمان على المحيط الهندي، وصعودًا على شواطئ الخليج العربي حتى البحرين والظهران في السعودية.
ومن الواضح أن ها “الحزام الفرعي” من القواعد يهدف بالدرجة الأولى إلى تطويق الجزيرة العربية، مرتبطًا من ناحية أخرى بالحزام الأساسي، الممتد من شرق آسيا إلى شرق أفريقيا.
إن إستراتيجية شرق السويس الجديدة، تعتمد على نقطتي ارتكاز رئيسيتين بالإضافة للمراكز البريطانية التقليدية في أفريقيا وروديسيا واتحاد جنوب أفريقيا، ومعظم مستعمراتها السابقة”، وهاتان النقطتان هما:
أوّلًا: اتحاد ماليزيا سابقًا “أي ماليزيا وسنغفاورة ومستعمرات بريطانيا في جزيرة ساراواك وكاليمانثان صباح”، وهي مناطق غنية بالمطاط والمعادن.
ثانيًا: “وهي الأهم بالنسبة للمصالح الإمبريالية”، المنطقة المحيطة بالخليج العربي، التي كانت تسندها فيما مضى بالدرجة الأولى القاعدة البريطانية في عدن، ثم نقاط الارتكاز الملحقة بها في قطر والبحرين وأبو ظبي ودبي والشارقة.
وهذه المنطقة تمثل موقعًا رئيسيًا لامتصاص الانتاج الصناعي البريطاني، يفوق دخله 200 مليون جنيه استرليني كل عام، وينتج ثلاثة أخماس مجموع واردات بريطانيا من البترول.
الوجود الاستعماري العسكري بالجزيرة على ضوء هذه الخطوط العريضة لإستراتيجية شرق السويس الجديدة الاستعمارية، يجدر بنا أن نلقي نظرة على التجسيد العسكري الواقعي في شبه الجزيرة العربية لهذه الإستراتيجية، التي -منذ 1965- تقرر أن تتولى فيها بريطانيا دور “البوليس الاستعماري” من السويس إلى سنغافورة.
فلبريطانيا، في هذه المنطقة، السلسلة التالية من القواعد:
في ظفار: يوجد قاعدة “جلالة” الجوية البريطانية المجهزة بقوة ضاربة من الطائرات النفاثة والمزودة بالصواريخ ووحدات المدفعية والمشاة وشبكة من أجهزة الرادار، ومخازن سلاح وذخيرة وقنابل نووية، ومحطة لا سلكية قوية تربطها بمجموعة من القواعد في الأقاليم والمناطق الأخرى، والمهمة المركزية الراهنة لهذه القاعدة الآن هي العمل على قمع ثورة ظفار.
في عُمان: ولبريطانيا فيها:
قاعدة مصيرا الجوية والبحرية، وفيها مخازن الذخيرة والتموين للأسطول البريطاني
قاعدة مسقط البحرية والجوية
قاعدة البريمي الجوية
قاعدة الشارقة الجوية
وبالإضافة لذلك، فلبريطانيا مجموعة من المعسكرات الكبيرة، والقواعد الجوية والبحرية الصغيرة، في البلدات والمناطق المجاورة: رأس الجد، بحار، عبرى، نزوة، الفجيرة، رأس الخيمة، أم القوين، عمان، أبو ظبي، وغيرها.
في البحرين:
قاعدة الجفير الجوية البريطانية، حيث ترابط بصفة مستمرة ثلاث حاملات طائرات، وخمس مدمرات، وست كاسحات ألغام ووحدة من مشاة الأسطول، وحاملات للجنود ومحطة لاسلكية، كما يوجد فيها مقر المخابرات العسكرية البريطانية في الخليج العربي.
قاعدة المحرق الجوية الاستراتيجية القائمة في الجزيرة المعروفة بهذا الاسم، وهي تضم سربين من الطائرات المقاتلة “هوكر هنتر” وسرب من طائرات النقل “بيفرلي” وقوة مؤلفة من 3 آلاف جندي من المظليين ووحدة رادار، ومحطة لاسلكية وفرقة حراسة للقاعدة مزودة بكلاب بوليسية مدربة.
قاعدة الهملة البرية، وتقع غربي المنامة، وتضم وحدات عسكرية من سلاح المشاة والمدفعية والدبابات والمهندسين ومحطة لاسلكي ومستودعات سلاح وذخيرة.
وقد استخدمت بريطانيا هذه القاعدة أثناء العدوان على مصر، عام 1956، وفي عمان عام 1957، وضد اليمن الشمالية، وضد ثورة جنوب اليمن، وفي قمع الحركة الوطنية في البحرين عام 1965.
والجدير بالذكر أنه في عام 1967 قامت بريطانيا بتوسيع هذه القواعد الثلاث، وهيأتها بالدرجة الاولى للقدرة على استقبال وحدات الأسطول والقوة الجوية الأمريكية الناشطة في المنطقة.
الدور السعودي شرق السويس إنّ هذين الحزامين العسكريين اللذين تزايدت قيمتهما بعد توحيد الإستراتيجية البريطانية والأمريكية شرقي السويس “حزام سنغافورة كينيا”، “حزام البحرين- أسمرة”، لا يكتملان في الواقع تماماً، إن هما لم يلتقيا في نقطة ارتكاز محورية وثابتة.
هذه “النقطة- المفتاح” هي السعودية.
فبعد هزيمتها في عدن، وقع اختيار بريطانيا على جزر البحرين كبديل لقاعدة عدن الشهيرة، لم يكن هذا الاختيار فقط وليد “الظروف الأفضل”، التي تُهيؤها اتفاقيات بريطانيا مع البحرين، والمُجحفة من حيث أنها تضمن النفوذ البريطاني على البحرين لمدد طويلة، لا حدود زمنية لها، بل كان أيضاً نتيجة عوامل أخرى لا تقل أهمية:
موقع البحرين الاستراتيجي في مواجهة منطقة “الشرق الأوسط”. موقعها في منطقة النفط. وضعها السياسي نتيجة المطالبة الإيرانية بها والجذب السعودي لها واللذان يجعلانها أكثر قبولاً “للتطويع والمساومة.” إلا أنّ البحرين لا تستطيع أن تُقدّم كل “مواهبها” الإستراتيجية إن هي لم تكن مكملة– كحلقة نفوذ استعمارية مباشرة- لتلك الحلقة المركزيّة في السعودية. من هنا، جاءت فكرة “الحلف الإسلامي”- قبل 5 حزيران- مُنطلقة من السعودية، ومُقترنة بشحن كميات ضخمة من السلاح البريطاني والأمريكي للرياض.
وفي الوقت الذي أخذت فيه بريطانيا توسّع قواعدها الرئيسية الثلاث في البحرين، مضت- بالشراكة مع الولايات المتحدة- لتجعل القواعد الأمريكية الكبيرة في السعودية ذات قيمة عسكرية أقوى.
اتفقت السعودية مع بريطانيا على استعارة (900) ضابط بريطاني لإنشاء شبكة جديدة للدفاع الجوي، ليس على شواطئ خليج العقبة ولكن قرب حدود اليمن.
تسلمت السعودية من الولايات المتحدة معدات للنقل العسكري وصواريخ هوك وطائرات نفاثة وأجهزة رادار.
سهّلت لها لندن وواشنطن استخدام جيش من المرتزقة الأجانب ولم يعد سراً الآن أنّ البلد الوحيد الذي يتفوّق على الكونغو في استخدام المرتزقة الأوروبيين هو السعودية، وكيف انعكست هذه المساعدات؟ انعكست بأن أنشأت السعودية في فترة قصيرة نسبياً (37) قاعدة عسكرية تتمركز على مسافة لا تتجاوز (120) كم امتداداً من اليمن.
التصور الإمبريالي للحزام السعودي كي نضع ذلك كله في سياق موحد، ينبغي أن نتذكّر التقييم الذي أعطاه هارولد ويلسون رئيس الوزراء البريطاني لهذه الخارطة: “ينبغي على بريطانيا أن تبقى قوية في شرق السويس إذ لا يمكنها أن تتخلّى عن دورها العالمي في تلك المنطقة، ولا التزاماتها فيما وراء البحار، ولا عن الحقوق المشروعة للمصالح التقليدية.”
إنّ حديث ويلسون عن “الدور العالمي لبريطانيا” و”الالتزامات” و”الحقوق المشروعة” يأخذ معناه وتوضيحاته مما ذكرته وثيقة صدرت عن معهد الدراسات الاستراتيجية البريطانية عام 1966.
“… وبريطانيا مُلتزمة رسمياً بالدفاع عن اتحاد الجنوب العربي وعن المحميّات الخارجة عن الاتحاد المذكور، كما أنها مُلتزمة رسمياً في الخليج الفارسي بالدفاع عن البحرين وقطر والفجيرة، ضد أي هجوم أو عدوان، وفضلاً عن هذه الالتزامات الرسمية فإنّ بريطانيا تعتبر نفسها- كما يعتبرها الكثيرون- ملتزمة أدبياً بالدفاع عن سائر دول الخليج، التي ما تزال مسؤولة عن علاقاتها الخارجية،… وكل ذلك هام في تأكيد الوجود العسكري لبريطانيا في مناطق المحيط الهندي والجنوب الشرقي لآسيا”.
وتمضي الوثيقة المذكورة لتضع أصبعها على النقطة الرئيسية: “… ومن شأن القواعد العسكرية في شبه جزيرة العرب والخليج الفارسي دعم النفوذ الغربي في الشرق الأوسط والتدخل ضد الأعمال العدوانية المحلية، بالإضافة إلى أنها تساعد في فتح الطريق الاستراتيجي للقواعد العسكرية البريطانية في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا، للحد من التوسع الشيوعي في المنطقة، وكذلك فإنّ الهدف الرئيسي من وجودها هو ضمان الاستمرار في شحن بترول الشرق الأوسط ومنع أي نزاع في المنطقة المجاورة أو القضاء عليه والمساعدة على التدخل العسكري البريطاني.
اتفاق الأمير فهد والشاه على إيقاع هذا كله، دخل النظام السعودي إلى مرحلة ما بعد هزيمة حزيران.
وعلى إيقاع ذلك كله ضبط الموقف السعودي خطواته وهو يدخل إلى مؤتمر الخرطوم وإلى المؤتمر الإسلامي وإلى مؤتمر القمة العربي الخامس في الرباط، وعلى إيقاع ذلك كله دخلت الأصابع السعودية لتعزف نغمتها الخاصة في جملة النغمات النشاز، التي عزفها مؤتمر حكام إمارات الخليج في رمضان الماضي، وعلى إيقاع ذلك كله ساقت السعودية قواتها إلى منطقة الوديعة لتفتعل الاشتباكات المسلحة مع جنوب اليمن.
وعلى إيقاع ذلك كله صافح الأمير فهد شقيق الملك فيصل شاه ايران، تحت ظلّ نيسكون منذ زيارته الأخيرة لواشنطن، وتحادثا كما يقول تقرير “الإيكونوميست” متحفظاً، على الشكل التالي: “في تشرين الثاني الماضي قالت تقارير أنّ الأمير فهد وزير الداخلية السعودي عقد اجتماعاً مع شاه إيران في أمريكا، وذكر أنّ اتفاقاً توصّل إليه الطرفان ليُوضع موضع الفعل إثر الانسحاب البريطاني من الخليج العربي، وفي هذا الاتفاق يؤكد الشاه حقوق إيران في البحرين ويؤكّد فيصل حقوق السعودية بواحة البريمي، أما قطر ودبي فستوضعان تحت الحماية الإيرانية ويدعمان مطالبهما بالبحرين، وفي هذا الاتفاق ستقوم السعودية وإيران بجهود للحفاظ على السلام في الخليج وذلك عن طريق تحقيق مجالات التأثير الخاصة بهم هناك، وقد ذكر أنّ الشاه أكد للأمير فهد أنّ العراق لن يُشكّل تهديداً لاستقرار تلك المنطقة، وقد قال الشاه للأمير فهد أنّ (16000) من الجنود العراقيين موجودون في الأردن كجزء من القوة العسكرية العربية ضد إسرائيل، وأنّ (30) ألفاً مشغولون في الشمال ضد الثورة الكردية، وشاه إيران يقوم حالياً بتزويد الأكراد بكمية من السلاح، كافية فقط لتحقيق إزعاجات ضد الجيش العراقي، لكنها غير كافية لتشكيل دولة كردية، الأمر الذي يخلق مشاكل بين إيران والأقليّة الكردية فيها.”
ومهما يكن من أمر الفهم الخاص لـ “الإيكونوميست” إزاء القضايا التي طرحها تقريرها السري المشار إليه، فإنّ الذي يهمّنا هو هذا الدور المشترك السعودي الإيراني، والذي تتضح أبعاده على ضوء ما ذكرناه عن استراتيجية شرق السويس الجديدة، وعن الموجة التي تأخذها التطورات ليس بالنسبة للخطط المتبعة لساحل عمان وإماراته وحسب، ولكن أيضاً للحشود السعودية المتصاعدة ضد اليمن.
إنّ مجمل تلك الوقائع يُشير، بصورة تتضح بازدياد، إلى أنّ الحلف السري غير المكتوب القائم عملياً بين إسرائيل والسعودية، فالمخططات السعودية هذه التي تُشكّل حلقة لا تنفصم عن الاستراتيجية الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط هي في جوهرها مخططات مُكمّلة لتلك التي تلعبها إسرائيل، والتي تُشكّل بدورها حلقة لا تنفصم عن استراتيجية الإمبريالية في منطقة الشرق الأوسط.
إنّ السعودية وهي تمضي في لعب حصتها من المؤامرة الكبرى لا تتسلّح فقط بمظهر شكلي خدّاع، من دعم مزعوم للجبهات العربية وللعمل الفدائي، ولكنها تتسلّح بنفوذ وفّره لها الصمت الرسمي العربي، لتضغط داخل جامعة الدول العربية بهدف عزل جمهورية اليمن الجنوبية، تمهيداً لمحاولة تصفيتها وبهدف تسكيت العرب وراء ستائر مؤتمر القمة الإسلامي عن الدور التآمري الذي تلعبه مع إيران، لمصلحة الاستراتيجية الإمبريالية في منطقة شرقي السويس.
كلمتي هذه الى الذين يبتسمون ابتسامات صفراء عندما يسمعون بالخطر الصهيوني على لبنان، والى الجماعات المعلومة التي تشعر بأن فلسطين في الصين.
هل قرأتم أيها السادة أمس نبأ الهجوم اليهودي على بليدا؟
أتعرفون أن بليدا قرية لبنانية،وأنها مفتاح التوغّل الى الجنوب؟ هل أدركتم بعد أن الخطر الجاثم على حدودنا يستطيع أن يضربنا في الصميم في أية ساعة يشاء؟
أجل، ان ابن بيروت وطرابلس واهدن وبكفيا وزحلة ينعم بالطمأنينة في عقر داره. انه لم يضطر الى هجر بيته وأرضه كما فعل ابن بليدا وعيترون
وعديسة. انه لا يسمع دوي القنابل في الصباح والمساء. انه ينام آمناً، ولا يعرف معنى التشرد والحرمان. أجل، ان العدو بعيد عنه بضعة عشرات من الكيلومترات فلا يشعر بالحرب أو بخطرها. ولكن، أين هي العاطفة الوطنية؟ أليست بليدا قطعة من هذا الوطن الذي يزعمون أنهم يفتدونه بكل غال ونفيس؟
لقد حان الوقت لأن يشعر اللبنانيون بأن لبنان هو في خط النار، وأنه الهدف الأول للضربة الصهيونية القادمة. وهذه المعلومات الواردة من مختلف المصادر تؤكد ذلك. كما أن الضربات التي وجهها العدو الى أراضينا في أواخر أيار الماضي (مع اندلاع حرب فلسطين) وحالت الرقابة يومئذ دون التحدث عنها،
والاعتداءات التي تتكرر بصورة لا تنقطع على حدودنا، نذيرة بما يضمره العدو.
جميل أيها السادة أن نتغنّى بكياننا، وأن نتحدى السماوت السبع من أجل حدودنا. ولكن أجمل ما في ذلك أن تعربوا عن هذه العاطفة لا بالتصريحات والمقالات، بل بمشاطرة اخوانكم في هذا الكيان في السراء والضراء وحين البأس.
ان الخطر الجاثم على رأس الجنوب يحتاج الى جهد عسكري شامل لمجابهته. فاذا ما قنعنا من العاطفة الوطنيّة بالنوم على الحرير، بينما ينام ابن الجنوب على النار والحديد، فاننا نوقّع بأنفسنا صك انتحارنا وانتحار لبنان.
في عالم تتغير فيه موازين القوة كل يوم، لم تعد المعارك تُحسم بالصواريخ ولا بالجنود، بل بالمعادلات التي تُكتب على شاشات الحواسيب. إسرائيل أدركت ذلك مبكرًا، فحوّلت الذكاء الاصطناعي من أداة بحث علمي إلى سلاح استراتيجي، يسبق الرصاصة، ويقرر مصير الهدف، قبل أن يعرف أنه في دائرة الخطر.
حين تلتقي قوة الخوارزمية مع خبرة الموساد، يتحول العمل الاستخباراتي من مطاردة المعلومة إلى التحكم في زمنها ومسارها. لم تعد المسألة قتل عدو أو إفشال عملية، بل إعادة تصميم بيئة الصراع، بحيث لا ينجو من عين المراقبة أحد، وبحيث تُصنع القرارات في زمن أقرب إلى اللحظة الفعلية.
هنا، لا نتحدث عن تكنولوجيا على هامش المعركة، بل عن قلب جديد لقوة إسرائيل، يمتد من ساحات الحروب في غزة ولبنان، إلى المختبرات التي تضمن لها البقاء في قمة سلم الذكاء الاصطناعي عالميًا. إنها قصة عن مستقبلٍ، تصنعه إسرائيل اليوم، وتترك فيه البقية يلهثون وراءها.
من التجريب إلى الريادة… كيف دخل الذكاء الاصطناعي عمق القوة الإسرائيلية لم تبدأ إسرائيل رحلتها مع الذكاء الاصطناعي من فراغ، بل من قاعدة تكنولوجية متينة، بُنيت على مدى عقود، وصناعة برمجيات وأمن سيبراني، تُعد من الأكثر تطورًا في العالم.
منذ أوائل الألفية، بدأت وحدات الاستخبارات، وعلى رأسها الوحدة 8200، في دمج تقنيات التحليل الآلي مع أنظمة المراقبة. لكن الانطلاقة الحقيقية جاءت بعد عام 2018، عندما قررت الحكومة الإسرائيلية إدراج الذكاء الاصطناعي كركيزة استراتيجية للأمن القومي، وأطلقت استثمارات ضخمة في البحث والتطوير.
على المستوى الدولي، باتت إسرائيل تصنف ضمن أعلى عشر دول عالميا في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وفقا لمؤشر جاهزية الذكاء الاصطناعي متقدمة على دول أوروبية كبرى، رغم صغر مساحتها ونشأتها وعدد سكانها. ويرجع ذلك إلى مزيج فريد، يجمع بين امتلاك بيئة، تحتضن الشركات الناشئة العالية الابتكار (أكثر من 1500 شركة)، ودعم حكومي مباشر للبحث والتطوير، وروابط وثيقة مع شركات التكنولوجيا العملاقة التي تملك مراكز أبحاث عملاقة في إسرائيل مثل، مايكروسوفت وأنتل وجوجل وغيرها، والتي تعمل على نقل التقنيات المدنية إلى الاستخدام العسكري والاستخباراتي، فيما يعرف بالنقل ثنائي الاستخدام.
بهذا الموقع، لم تعد إسرائيل مجرد مستخدم للتكنولوجيا مثل غيرها من دول الجوار، بل أصبحت مُصدّرًا عالميًا للأدوات التي تعيد رسم حدود القوة والسيطرة، ليس فقط في الشرق الأوسط، بل في أسواق أمنية حول العالم.
من الشيفرة إلى الرصاصة… رحلة الذكاء الاصطناعي في قلب القوة الإسرائيلية في مطلع الألفية، كانت إسرائيل تضع حجر الأساس لمشهد تكنولوجي جديد. لم يكن الأمر آنذاك أكثر من مختبرات بحث في الجامعات ومجموعة من الشركات الناشئة في تل أبيب وحيفا، لكن خلف الأبواب المغلقة، كانت الوحدة 8200 ذراع الاستخبارات الالكترونية، وهي بداية التحالف بين الخوارزميات والعمل الاستخباراتي. كان الهدف بسيطا جدا في بدايته: “جمع أكبر قدر من البيانات وتحويله لمعلومات”.
خلال العقد الأول، انحصر الذكاء الاصطناعي في دور المساعد الصامت، يُحلل المكالمات الملتقطة، ويصنّف الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية. لكن مع حلول عام 2010، بدأ الطموح يتغير. صارت الخوارزميات قادرة على تعرّف الوجوه في الصور الجوية، ورسم خرائط تحركات الأفراد في مدن مكتظة مثل غزة، بدقة لم تكن ممكنة قبل سنوات.
لتأتى نقطة التحول مع عملية الجرف الصامد في عام 2014، حيث استخدمت إسرائيل لأول مرة أنظمة التحليل للبيانات الضخمة لتسريع اختيار الأهداف، وإن كان الاعتماد على القرار البشري، لايزال قائما. ما خرجت به المؤسسة العسكرية من تلك التجربة، هو قناعة أن الذكاء الاصطناعي يمكنه تقليص الزمن، اتخاذ قرار الضربة من أيام إلى ساعات، وربما إلى دقائق.
ما بين 2015 و2018، تحولت القناعة إلى خطة. أُنشأت أقسام متخصصة داخل الجيش والموساد، وتدفقت الاستثمارات الحكومية والخاصة على مشاريع تطوير خوارزميات مخصصة للأمن. هذا أيضًا كان عصر تصدير التكنولوجيا، إذ بدأت إسرائيل تبيع برمجياتها للعالم، وأبرزها برنامج بيجاسوس الذي حوّل الهاتف الذكي لأي شخص إلى نافذة مفتوحة للأجهزة الإسرائيلية، دون أن يشعر. Pegasus.
عام 2019، كان بداية الاندماج العلني بين الذكاء الاصطناعي والعمل المخابراتي. ثم في 2021، وأثناء جولة القتال مع غزة، أعلن الجيش الإسرائيلي، أنه خاض أول حرب مدارة بالذكاء الاصطناعي في غرف العمليات، كانت أنظمة مثل جوسبل والكيميائي تعمل كعقول رقمية، تلتقط البيانات من الميدان، تحللها وتخرج قائمة أهداف جاهزة وتوصيات بالوقت الأفضل للهجوم.
لكن ما كان في 2021 طفرة تقنية، صار في 2023 و2024 آلة قتل مؤتمتة بالكامل. تسريبات من صحافة استقصائية، كشفت عن برامج مثلا “لافندر وغيرها، تكشف من خلال تغذيتها من قواعد بيانات ضخمه عن كل فرد في مواقع الصراع من رقم هاتفه، وحتى نمط نومه، لتصنفه تلقائيا كهدف أو لا…
ثم جاءت الاغتيالات الدقيقة لتظهر مستوى آخر من هذا الدمج بين التقنية والاستخبارات. اغتيال العالم النووي الإيراني محسن فخري زاده أواخر 2020، عبر مدفع رشاش ذكي يعمل بالذكاء الاصطناعي، ويتلقى أوامره عبر الأقمار الصناعية، كان إعلانًا واضحًا: إسرائيل لم تعد تحتاج إلى عملائها على الأرض لتنفيذ أخطر عملياتها.
اليوم، في 2025، لم يعد الذكاء الاصطناعي عنصرًا مساعدًا في المعركة، بل صار العمود الفقري لآلية اتخاذ القرار العسكري والاستخباراتي. في أي مواجهة– سواء كانت حربًا شاملة أو مناوشة محدودة– يمكن لإسرائيل أن تحلل بيانات ملايين الأشخاص في المنطقة لحظيًا، وتحوّل المعلومة إلى ضربة في دقائق. إنه انتقال من زمن الحرب التقليدية إلى زمن الخوارزمية القاتلة، حيث تُحسم المعركة، قبل أن يدرك الطرف الآخر، أن اللعبة بدأت.
أدوات إسرائيل في الذكاء الاصطناعي… من الكود إلى الهدف لم يكن صعود إسرائيل في ساحة الذكاء الاصطناعي مجرد نتيجة للبحث الأكاديمي أو الشركات الناشئة، بل جاء عبر أنظمة وأدوات محددة، صُممت لتخدم غاية واحدة تحويل المعلومة إلى قوة ميدانية فورية.
في قلب هذه الأدوات يبرز برنامج لافندر الذي ظهر اسمه في تسريبات صحفية، كما ذكرنا كأحد أخطر أنظمة الاستهداف التي استعملتها إسرائيل في غزة. بخلاف ذلك برامج لتحديد اللحظة المثالية للضربات، ومتابعة حركة الهدف لحظيا عبر إشارات الهاتف وكاميرات المراقبة لمراقبة التوقيت الملائم لضمان إصابة الهدف في المكان الأمثل. وبالطبع كل هذه البرامج، يجاورها برامج تجسس أشهرها بيجاسوس الذي تم تطويره ليصبح أداة اختراق للهواتف الذكية دون علم أصحابها، ويجمع كل ما في الجهاز من معلومات بدقة متناهية.
ولا يمكن إغفال عمليات الاغتيال عن بعد عالية التقنية التي برزت في عدد من العمليات منها عمليات البيجر الشهيرة في لبنان التي أطاحت برجال حزب الله.
وأخيرًا، تظل حرب الوعي جبهة مفتوحة، تستخدم فيها إسرائيل جيوشًا من الحسابات الوهمية، وتحليل النقاشات على وسائل التواصل بخوارزميات متقدمة، ونشر مواد مُفبركة بتقنيات Deepfake لتشويه سمعة الخصوم أو زرع الانقسام في مجتمعاتهم.
حين تتأرجح الخوارزمية بين العجز والاختراق رغم أن إسرائيل تتصدر سباق الذكاء الاصطناعي في المنطقة، فإن تجربتها مع حماس في غزة، كشفت أن التفوق التكنولوجي ليس عصا سحرية. فالبيئة الحضرية المكتظة والأنفاق العميقة، تحوّل أحدث الأقمار الصناعية والطائرات المسيّرة إلى عيون عمياء، فيما تُبقي تكتيكات حماس اتصالاتها الرقمية نادرة أو معدومة، وتزرع بيانات مضللة، تربك الخوارزميات. حتى حين تقترب إسرائيل من خيوط، تقود إلى الأسرى، تعوقها حسابات سياسية وخطر قتل الرهائن، فيبدو المشهد، كأنه عجز، رغم أن العائق ليس دائمًا تقنيًا.
لكن الصورة تختلف تمامًا على جبهات أخرى. في لبنان، نفّذت إسرائيل ضربات نوعية قلبت معادلة الردع مع حزب الله، مثل تصفية القيادي فؤاد شكر في الضاحية الجنوبية، وتدمير معسكرات ومخازن سلاح في البقاع، وصولًا إلى اغتيالات داخل بيروت نفسها. أما مع إيران، فقد امتد الذراع الإسرائيلي إلى قصف القنصلية الإيرانية في دمشق، وقتل قيادات بارزة من الحرس الثوري، بل وحتى اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران. هذه العمليات لم تكن وليدة صدفة، بل نتاج منظومة دمجت بين جمع الإشارات والصور الجوية ونمط حياة الهدف، ثم تحليلها بخوارزميات متقدمة، تقلّص زمن المعلومة إلى الضربة، ما جعل النتائج في هذه الساحات مدمّرة واستراتيجية..
من الميدان إلى القرار… كيف غيّر الذكاء الاصطناعي شكل الصراع لم تعد المواجهة مع إسرائيل مسألة سلاح في مواجهة سلاح، بل صارت سباقًا مع آلة، تستطيع أن تسبق القرار البشري بخطوات. في ساحات القتال، تحوّل زمن الانتقال من المعلومة إلى الضربة من ساعات وأيام إلى دقائق وربما ثوانٍ. في غزة، أصبح القائد الميداني أو موقع إطلاق الصواريخ هدفًا، يتم تحديده وتنفيذه فورًا، وكأن الخوارزمية كانت تنتظر اللحظة المناسبة منذ البداية. وفي سوريا، كثيرًا ما استُهدفت مخازن أو قوافل أسلحة، قبل أن تكتمل عملية النقل. حتى في العمق الإيراني، نُفذت عمليات اغتيال دقيقة دون أن تترك أثرًا يمكن تتبعه.
لكن تأثير الذكاء الاصطناعي امتد إلى السياسة. إسرائيل توظف هذه القدرات كأداة ردع استراتيجية، فمجرد معرفة الخصم أن هناك آلة قادرة على رصده وتصفيته في أي وقت، يخلق توازن رعب جديد. هذه السمعة التقنية تمنح إسرائيل أوراقًا إضافية على طاولة التفاوض، وتدفع بعض الأطراف إلى تجنب التصعيد أو البحث عن تسويات.
هذا التفوق خلق فجوة واضحة بين إسرائيل وجوارها. فبينما ما زالت مصر والأردن تستخدمان تقنيات مستوردة في نطاق محدود، ويركز حزب الله على الردع الصاروخي، تحاول إيران مجاراة التطور الإسرائيلي، لكنها تصطدم بعقوبات ونقص في المعدات.
ورغم قوة هذه المنظومة، إلا أن استخدامها يثير جدلًا قانونيًا وأخلاقيًا. من يتحمل المسئولية، إذا أخطأت الخوارزمية واستهدفت مدنيين؟ وهل يمكن اعتبار قتل شخص بناءً على “احتمال” سلوكه المستقبلي جريمة حرب؟ منظمات حقوقية كبرى حذرت من غياب المراجعة البشرية، لكن إسرائيل تبرر ذلك بضرورات السرعة والحسم.
ولم تكتفِ إسرائيل بالسيطرة على الميدان، بل امتدت حربها إلى العقول. عبر حسابات وهمية ومحتوى مُصمم بخوارزميات متقدمة، تشيع الخوف وتزرع الشك، فتربك المجتمعات المستهدفة وتضعف ثقتها بقياداتها. وهكذا، أصبح الدمج بين الذكاء الاصطناعي والموساد تحولًا كاملًا في قواعد الصراع، حيث يمكن لإسرائيل أن تحسم المعركة على الورق، قبل أن تبدأ في الميدان.
المحور الخامس: الأمن القومي العربي في مواجهة الخوارزمية الإسرائيلية لم يعد الخطر على الأمن القومي العربي مجرد طائرات أو وحدات خاصة، بل أصبح الخطر في أن تتحول حياة ملايين العرب إلى بيانات مخزنة على خوادم تُحللها خوارزميات إسرائيلية. هذه القدرة على جمع المعلومات وتحليلها وتحويلها إلى أداة استهداف لحظي تعني أن زمن التحضير والإنذار المبكر يتلاشى.
إسرائيل لا تحتاج إلى حشد قوات؛ لتعرف ما يدور في عمق العواصم العربية. شبكات المراقبة الرقمية وبرامج التجسس توفر لها صورة عن التحركات العسكرية والاقتصادية والسياسية والمزاج الشعبي. هذه المعرفة تمنحها أفضلية مزدوجة: الردع المباشر والتدخل غير المباشر.
الأخطر أن هذا التفوق يمتد إلى تهديد الاستقرار الداخلي. فالهجمات السيبرانية وحملات التضليل قادرة على إرباك الرأي العام وإشعال خلافات داخلية، هذا يعني أن خطوط الدفاع التقليدية لم تعد كافية. التحدي الآن هو بناء قدرة على الحماية الرقمية تضاهي قدرة الخصم.
في المستقبل، إما أن تواصل الدول العمل الفردي فتتسع الفجوة، وإما أن تبني تحالفًا إقليميًا للأمن الرقمي، أو تلجأ لتعاون محدود مع إسرائيل، وهو مسار يحمل مخاطر الاختراق. المعركة القادمة ليست فقط على الأرض أو في الجو، بل في عالم الأصفار والآحاد، حيث تُحسم القرارات، قبل أن تبدأ الحروب.
المحور السادس: الذكاء الاصطناعي كضمانة للبقاء في قمة السلم الإقليمي بينما ينشغل كثيرون بالاستخدام العسكري للذكاء الاصطناعي، هناك مسار آخر في إسرائيل: تسخيره لتقوية القاعدة العلمية والصناعية والاقتصادية. الهدف هنا ليس كسب معركة، بل بناء تفوق شامل، يجعل إسرائيل المصدر الإقليمي لأي تقنية.
في الجامعات ومراكز الأبحاث، يعمل آلاف الباحثين على مشاريع في الطب الحيوي، والطاقة المتجددة، وعلوم المواد، وتحليل البيانات البيئية. هذه الأبحاث مرتبطة مباشرة بالصناعة، حيث تنتقل الابتكارات بسرعة من المختبر إلى السوق. في الأمن الغذائي والمائي، تستثمر إسرائيل في أنظمة لإدارة الموارد بكفاءة، من شبكات ري ذكية إلى مراقبة جودة المياه، ما يمنحها ميزة في التكيف مع تغير المناخ وتصدير الحلول لدول أخرى.
في الصناعة، تتقدم إسرائيل في الذكاء الاصطناعي الصناعي، من التحكم في الروبوتات إلى تحسين سلاسل الإمداد، ما يضاعف إنتاجيتها، ويعزز مكانتها كمركز جذب للاستثمارات. بهذا الدمج بين التفوق العسكري والبحث العلمي، تؤمن إسرائيل لنفسها طبقة أمان استراتيجية، تجعل من الصعب إزاحتها عن الصدارة.
الخاتمة: خوارزمية القوة… من ساحة المعركة إلى معمل الأبحاث ما بدأ كمشاريع بحثية، تحوّل في إسرائيل إلى منظومة متكاملة، تتغلغل في كل أبعاد قوتها. في الميدان، اختصرت الخوارزميات المسافة بين المعلومة والضربة إلى ثوانٍ. في الاستخبارات صارت البيانات الضخمة وقودًا لقرارات فورية. وفي الحرب النفسية، أعادت إسرائيل تشكيل وعي الخصوم بمهارة.
لكن الأخطر أن هذا التفوق لا يقتصر على الأمن والدفاع، بل يمتد إلى البحث العلمي والصناعة، ليضمن بقاء إسرائيل في قمة السلم الإقليمي. هذا الدمج بين القوة الصلبة والقوة الناعمة يخلق طبقة أمان، تجعل من الصعب زعزعة مكانتها.
التحدي أمام العرب مزدوج: مواجهة سلاح ذكي قادر على الحسم، ومنافسة منظومة علمية واقتصادية، تبني تفوقًا طويل المدى. الفجوة ليست فقط في عدد الصواريخ، بل في القدرة على إنتاج المعرفة وتوظيفها. وفي هذا السباق، من يتحكم بالخوارزمية يضع قواعد اللعبة كلها.
المصادر:
تقارير استقصائية عن أنظمة الذكاء الاصطناعي الإسرائيلية– تقرير The Guardian، “Inside Israel’s AI-powered targeting systems” (2024). تحقيق +972 Magazine وLocal Call عن نظام “Lavender” و”Gospel” ودورهما في تصنيف الأهداف البشرية (2024). تغطية عمليات إسرائيل ضد حزب الله– وكالة رويترز، “Israel kills senior Hezbollah commander Fuad Shukr in Beirut strike” (31 تموز/تموز 2024).Associated Press، “Israeli strikes hit Hezbollah depots in Bekaa Valley” (15 تموز/تموز 2025). BBC News، “Hezbollah official killed in Beirut strike” (1 نيسان/نيسان 2025). ضربات إسرائيل ضد أهداف إيرانية – Al Jazeera، “Israeli strike on Iranian consulate in Damascus kills senior IRGC commanders” (1 نيسان/نيسان 2024). Haaretz، “Hamas leader Ismail Haniyeh assassinated in Tehran” (31 تموز/تموز 2024). التقييمات العسكرية والتحليلية – معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS)، “AI and the IDF: Operational integration and strategic implications” (2025). مركز رصد النزاعات المسلحة (ACLED)، بيانات عن أنماط الضربات الجوية في لبنان وسوريا وغزة (2023–2025). أنظمة الذكاء الاصطناعي المستخدمة من إسرائيل:
Lavender نظام ذكاء اصطناعي يُنشئ قاعدة بيانات ضخمة لتصنيف آلاف الأشخاص كـ”أهداف محتملة” في غزة، مع مراجعة بشرية محدودة جدًا. شُهر بتسريبات +972 Magazine وLocal Call التي أشارت إلى حوالي 37,000 هدف معقول. The Gospel (أحيانًا يُشار إليه بـ Habsora) برنامج تحليل يستهدف المباني والمنشآت المحتملة (وليس الأفراد)، ويُوصي بضربها، مثل الجامعات والشقق التي يُعتقد، أنها تُستخدم من قبل حماس. Where’s Daddy? نظام تكميمي لـ Lavender يتعقّب الأفراد المشبوهين حتى يضعهم في موقع حساس (مثل المنزل وقت وجود العائلة) قبل تنفيذ الضربة. Fire Factory برنامج بعد اختيار الهدف، يهندس تنفيذ الهجوم من خلال تحديد الذخيرة المناسبة وخطة الضرب وتقسيم المهمات للطائرات أو الطائرات المسيّرة. ELS‑8994 StarLight منصة تحليل ذكية تجمع بيانات ضخمة (صور جوية، إشارات تحرّك، اتصالات، …)، وتحوّلها إلى “معلومات قابلة للعمل” لتسريع اتخاذ القرار.
Harpy / Guardium (أنظمة ذاتية ميدانية) Harpy: مسيّرة “أطلق وانس”، تبحث وتضرب أنظمة الرادار تلقائيًا. Guardium (MK III): مركبات ذاتية أرضية تُستخدم في مراقبة الحدود. Pegasus برنامج تجسس متطور يخترق الهواتف (بدون علم المستخدم) لالتقاط المكالمات، الرسائل، الصور، والموقع الجغرافي. شرح لتكاملية أنظمة الاستهداف المدعومة بالذكاء الاصطناعي (إسرائيلية)
Lavender – مهمة: التصنيف الأولي للأهداف البشرية. – يعتمد على تحليل أنماط السلوك، والاتصالات، والوجود في مواقع معينة. – يخرج قائمة “أهداف بشرية” مع نسب احتمالية. ↓
The Gospel – مهمة: الربط بين الهدف البشري أو المادي والمعلومة الميدانية. – يحلل البيئة المحيطة بالهدف: البنية التحتية، تحركات القوات، الموارد. – يحدد أفضل طريقة/وقت لضرب الهدف. ↓
Alchemist – مهمة: دعم القرار العملياتي في الوقت الفعلي. – يجمع التوصيات من Lavender وThe Gospel مع بيانات ميدانية لحظية. – يعطي القادة “صورة مدمجة” ويقترح أولويات الضرب. ↓
Fire Factory – مهمة: تحويل القرارات إلى خطة نيران متكاملة. – يحدد نوع السلاح، توقيت الضربة، توزيع الموارد (طائرات، مدفعية، صواريخ). – يمكنه جدولة ضربات متعددة تلقائيًا. ↓
[التنفيذ]
– الطائرات أو الوحدات تنفذ الضربة وفق الخطة.
– أحيانًا يكون هناك تدخل بشري للمصادقة النهائية، وأحيانًا يتم التنفيذ شبه تلقائي.
المسار باختصار:
Lavender = تحديد “من” هو الهدف؟ The Gospel = تحديد “كيف” و”أين” و”متى” ضربه؟ Alchemist = دمج المعلومات واتخاذ القرار العملياتي. Fire Factory = تنفيذ الخطة وتنسيق النيران.
تحت ضغطٍ عالمي وأخلاقي متصاعد، أعلنت الحكومة الألمانية مؤخرًا تعليق تزويد تل أبيب بأي أسلحة يمكن استخدامها في العمليات داخل قطاع غزة، وذلك بعد أيام من إقرار حكومة الاحتلال خطة لاحتلال القطاع بالكامل. خطوة وصفتها بعض الصحف الإسرائيلية بـ”الزلزال”، لما تحمله من دلالة على تحوّل واضح في موقف برلين تجاه حليفها التقليدي، بعد أن كانت من أكثر العواصم الأوروبية تمسكًا بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
يُنظر إلى هذا القرار بوصفه محاولة ألمانية لإيجاد توازن جديد بين التزاماتها التاريخية تجاه “إسرائيل”، وبين مقتضيات القانون الدولي الإنساني، وضغوط الرأي العام والمؤسسات القضائية داخل ألمانيا والاتحاد الأوروبي.
في هذا التقرير، نستعرض تفاصيل القرار الألماني ونطاقه وحدوده القانونية، ونرصد الرد الإسرائيلي الرسمي وحجم الغضب الذي أثاره، كما نعرض بالأرقام حجم الصادرات العسكرية الألمانية إلى “إسرائيل” في السنوات الأخيرة، لنبحث في النهاية كيف يمكن أن ينعكس هذا القرار على قدرات جيش الاحتلال في الميدان.
ما الذي حدث؟ في 8 آب/آب 2025، أعلن المستشار الألماني فريدريش ميرتس أن بلاده قررت وقف تصدير أي أسلحة يمكن استخدامها في قطاع غزة “حتى إشعار آخر”، في خطوة جاءت ردًّا على قرار مجلس الوزراء الإسرائيلي باحتلال قطاع غزة بالكامل.
وأوضح ميرتس أن ألمانيا ما زالت تعترف بـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضد حماس”، لكنها تعتبر أن إطلاق سراح الأسرى والدخول في مفاوضات جدية لوقف إطلاق النار يمثلان أولوية قصوى.
وأضاف أن برلين ترى في “نزع سلاح حركة حماس وعدم منحها أي دور في مستقبل غزة” شرطًا أساسيًا، لكن التصعيد العسكري الأخير من جانب إسرائيل يجعل تحقيق هذه الأهداف أكثر صعوبة. وأكد أن ألمانيا، رغم كونها أكبر مصدر أوروبي للأسلحة إلى “إسرائيل”، تشعر بقلق بالغ إزاء المعاناة المستمرة للمدنيين في غزة.
مشددًا على أن “الهجوم المخطط له يضع على عاتق الحكومة الإسرائيلية مسؤولية أكبر لتلبية احتياجات السكان”. كما دعا ميرتس تل أبيب إلى الامتناع عن أي خطوات إضافية نحو ضم الضفة الغربية.
تفاصيل القرار
ماهيّة التعليق؟ يوقف قرار برلين الصادر مؤخرًا منح أي تراخيص جديدة لتصدير الأسلحة، إضافة إلى تعليق التسليمات الجارية، لكل ما يمكن أن يُستخدم مباشرة في العمليات داخل قطاع غزة. ويتضمن ذلك -وفق البيان الحكومي-الأسلحة الخفيفة والذخائر، وأنظمة التهديف والاتصال العسكرية، وقطع الغيار الحيوية، وبعض المكوّنات الإلكترونية ذات الاستخدام العسكري الواضح. فيما يهدف القرار إلى منع وصول أي معدات قد تُحدث “أثرًا قتاليًا مباشرًا” في ساحة غزة.
ما هو الإطار القانوني؟ استند القرار إلى مزيج من قانون مراقبة أسلحة الحرب الألماني وقانون التجارة الخارجية إضافة إلى الموقف المشترك للاتحاد الأوروبي 2008/944 الخاص بمعايير تصدير السلاح (خاصة معيار احترام القانون الدولي الإنساني ومبدأ منع تفاقم النزاعات). عمليًا، يعني ذلك أن أي طلب ترخيص يُفحص الآن بمبدأ “الافتراض بالرفض” إذا وُجد احتمال معتبر لاستخدامه في غزة.
ما الذي لا يشمله التعليق؟ – المعدات ذات الاستخدام الإنساني/الإنقاذي البحت (مثل تجهيزات الحماية المدنية والإجلاء الطبي). – بعض الاستخدامات المزدوجة التي يمكن ضمان عدم تحويلها عسكريًا، بشرط وجود قيود وشهادات مستخدم نهائي صارمة.
– عقود الصيانة الروتينية التي لا تضيف قدرة قتالية جديدة ولا تُسهِّل استخدامًا مباشرًا في غزة وحتى هذه سيتم مراجعتها كل على حدى حسب الحالة.
كما فرّق القرار بين أنواع العقود والتراخيص؛ فالتراخيص التي مُنحت ولم تُنفذ بعد ستُجمّد فورًا، أما الشحنات التي سُلّمت بالفعل فلن يشملها القرار. وبالنسبة للعقود الجارية حاليًا، فستخضع لمراجعة سريعة وقد تُوقف إذا تبيّن احتمال استخدامها في غزة، مع منح الشركات حق الاعتراض أمام الهيئة الاتحادية للرقابة على الاقتصاد والتصدير (BAFA).
أما فيما يخص نطاق المراجعة الزمنية، فلم يتم تحديدها سلفًا، لكن ستجري مراجعتها بشكل منتظم كل شهر وكل ثلاثة أشهر، لمتابعة تطورات الأوضاع في غزة، ومدى الالتزام بالقانون الدولي، وتأثير القرار على الإمدادات الدفاعية لألمانيا وأوروبا.
مع التشديد على أن أيّ قرار بتخفيف الحظر سيكون مرتبطًا بتغيّر الظروف، مثل إلغاء خطة الاحتلال الكامل، وتقديم ضمانات إنسانية يمكن التحقق منها، ووضع آليات واضحة لمتابعة استخدام الأسلحة.
كيف جاء الرد الإسرائيلي؟ أثار قرار برلين تعليق تصدير الأسلحة إلى “إسرائيل” موجة انتقادات حادة في الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية. فقد وصفت صحيفة يديعوت أحرونوت الخطوة بأنها “طعنة في الظهر” من شريك استراتيجي طالما وقفت ألمانيا إلى جانبه سياسيًا وعسكريًا.
ورأى مسؤولون في حكومة الاحتلال أن القرار يمثل سابقة خطيرة، لكون ألمانيا واحدة من أكبر مزوّدي الجيش الإسرائيلي بالسلاح داخل الاتحاد الأوروبي.
حاول نتنياهو التخفيف من وقع القرار بالتأكيد على أن “هدف إسرائيل ليس السيطرة على غزة، بل تحريرها من حماس.” وعلى الصعيد الرسمي، عبّر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عن “خيبة أمله” من الموقف الألماني، وذلك خلال مكالمة هاتفية مع المستشار فريدريش ميرتس، بحسب بيان صادر عن مكتبه. كما حاول نتنياهو التخفيف من وقع القرار بالتأكيد على أن “هدف إسرائيل ليس السيطرة على غزة، بل تحريرها من حماس وتمكين إقامة حكومة سلمية هناك”، على حد وصفه.
ماذا يعني قرار الحظر؟ يمثل قرار ألمانيا تعليق تصدير الأسلحة إلى إسرائيل تحولًا غير مسبوق في العلاقات بين البلدين منذ عقود، إذ ينقل برلين من موقع الدعم غير المشروط إلى فرض قيود مرتبطة بسلوك “إسرائيل” الميداني.
كما يضع هذا الموقف ضغوطًا مباشرة على سلاسل الإمداد العسكري الإسرائيلية، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على التكنولوجيا أو المكوّنات الألمانية، مثل أنظمة الاتصالات المتطورة والمعدات المدرعة.
على المستوى الرمزي، يوجّه الحظر رسالة واضحة لحلفاء إسرائيل في أوروبا بأن استمرار العمليات العسكرية في غزة على النهج الحالي لم يعد مقبولًا سياسيًا أو قانونيًا، ما قد يدفع دولًا أخرى لاتخاذ مواقف مماثلة، ويهيئ لمراجعة أوسع للعلاقات الدفاعية الأوروبية مع تل أبيب.
ويُنظر إلى هذه الخطوة أيضًا كإجراء جريء من المستشار فريدريش ميرتس، الذي كان قد صرّح بعد فوزه بالانتخابات في شباط/شباط بأنه سيدعو نتنياهو لزيارة ألمانيا، في تحدٍ لمذكرة الاعتقال الصادرة بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية، وفق ما نقلته وكالة رويترز.
ما حجم الصادرات العسكرية الألمانية لإسرائيل؟ تحتل ألمانيا المرتبة الثانية عالميًا بين مصدري الأسلحة إلى إسرائيل، بحصة بلغت نحو 30% من وارداتها بين عامي 2019 و2023، وفق بيانات معهد ستوكهولم لأبحاث السلام. وتشمل الصادرات الألمانية في الغالب غواصات وسفن حربية، ومحركات للمركبات البرية والبحرية والطائرات، إضافة إلى طوربيدات للغواصات.
في عام 2022، وقّعت إسرائيل صفقة ضخمة بقيمة 3.3 مليارات دولار مع برلين لشراء ثلاث غواصات ديزل متطورة من طراز داكار، المقرر تسليمها عام 2031، لتحل محل غواصات دولفين الألمانية التي تشغلها البحرية الإسرائيلية حاليًا.
عام 2023 شهد قفزة غير مسبوقة في مبيعات الأسلحة الألمانية إلى إسرائيل، إذ بلغت 361 مليون دولار -أي عشرة أضعاف قيمة الصادرات في 2022- وكانت غالبية التراخيص الممنوحة بعد 7 تشرين الأول/تشرين الأول.
وشملت هذه الصادرات 3000 سلاح مضاد للدبابات محمول، و500 ألف طلقة ذخيرة للأسلحة النارية الآلية أو شبه الآلية، إضافة إلى مركبات برية وتقنيات لتطوير وتجميع وصيانة الأسلحة.
كما سلّمت ألمانيا محركات ديزل لدبابات ميركافا-4 التي تُستخدم في الغزو البري لغزة، وهي الدبابات التي ارتبط اسمها بهجمات واسعة على المدنيين والبنية التحتية في القطاع.
ووفق صحيفة فايننشيال تايمز، أنشأت برلين في تشرين الثاني/تشرين الثاني 2023 “مجموعة عمل” تضم وزارتي الخارجية والاقتصاد ومكتب مراقبة الصادرات، بهدف تسريع الموافقات على طلبات السلاح الإسرائيلية.
بقدر ما يحمل موقف برلين الجديد أبعادًا عملية قد تؤثر على قدرات جيش الاحتلال في مجالات محددة، فإنه يحمل أيضًا رسالة سياسية قوية إلى تل أبيب يفيد بأن استمرار العمليات في غزة على نهجها الحالي لم يعد مقبولًا في العواصم الأوروبية الكبرى.
وبينما سيظل تأثير القرار على المدى البعيد مرتبطًا بمدى اتساعه وانضمام دول أخرى إليه، فإنه بلا شك يفتح فصلًا جديدًا في علاقة برلين بتل أبيب، فصلًا تحكمه حسابات السياسة والقانون الدولي أكثر من منطلقات التضامن التاريخي.
لم يتوقف الاستهداف الإسرائيلي في قطاع غزة منذ تشرين الأول/تشرين الأول 2023، وخلال هذه المدة، استهدف جيش الاحتلال الإسرائيلي، ضِمن استهدافاته للمدنيين، الصحافيين، فبلغ عدد الشهداء منهم 238 شهيداً، وفقاً للإعلام الحكومي في غزة، الذي دان بشدة الاغتيال، وذلك بعد استهداف طال خيمتهم في وقت متأخر من مساء أمس، 10 آب/آب 2025، عند مجمع الشفاء الطبي في غزة، وهو ما أدى إلى استشهاد 6 صحافيين، هم:
أنس الشريف، مراسل قناة “الجزيرة”. محمد قريقع، مراسل قناة “الجزيرة”. إبراهيم ظاهر، مصور صحافي. مؤمن عليوة، مصور صحافي. محمد نوفل، مساعد مصور صحافي. محمد الخالدي، يعمل مع منصة “ساحات”. وعَقِبَ تنفيذ الاغتيال أمام مجمع الشفاء الطبي، أعلن مدير المجمع، الدكتور محمد أبو سلمية، استشهاد سبعة أشخاص، بينهم أنس ومحمد، وعدد آخر من الشهداء الصحافيين جرّاء استهداف خيمة معروفٌ أنها للصحافيين. وأضاف أبو سلمية في حديث إلى قناة “الجزيرة” أن “الاحتلال يحاول إخفاء حقيقة مجازره في القطاع باستهدافه الصحافيين”، وأشار إلى أن الاحتلال يحضّر لمجزرة في القطاع في غياب صوت أنس ومحمد و”الجزيرة” ومنابر الحقيقة، وعبّر عن خشيته من أن يموت سكان غزة في صمت من دون أن يسمعهم أحد.
الهدف واضح
تأتي هذه الجريمة الجديدة في سياق ممنهج لإسكات الأصوات الناقلة للواقع المروع في قطاع غزة، ولا سيما أن إسرائيل منعت دخول صحافيين أجانب وعرب إلى القطاع، فاقتصرت التغطية المستمرة منذ بدء العدوان على الصحافيين الفلسطينيين من أبناء قطاع غزة. هذا فضلاً عن أن الصحافيَين أنس الشريف ومحمد قريقع يعملان في شمال القطاع الذي تنوي إسرائيل شنَّ عملية كبيرة فيه، كما أعلنت خلال الأيام الماضية، وبالتالي ربما تجرب منْع تصوير أو نقْل أي خبر من هناك.
وفي بيان نشره بُعَيْدَ الغارة على خيمة الصحافيين، أقر جيش الاحتلال الإسرائيلي باغتيال الشريف، وَوَصَفَهُ بأنه “‘إرهابي‘ تنكّر بزي صحافي في قناة ‘الجزيرة‘”، وادعى أن أنس الشريف كان قائد خلية في حركة “حماس”، وروّج لإطلاق الصواريخ على إسرائيل.
وتعرّض الصحافيون في قطاع غزة لحملة تحريض إسرائيلية منذ بدء الحرب على القطاع، في تشرين الأول/تشرين الأول 2023، وحتى قبل الحرب، مع اغتيال الصحافية الفلسطينية في قناة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة في أيار/أيار 2022، حين استهدفها قناص إسرائيلي في جنين.
تنديدات باغتيال الحقيقة
نددت عدة جهات محلية وعربية ودولية باغتيال الصحافيين في غزة، وأصدرت شبكة “الجزيرة” بياناً قالت فيه: “ندين الاغتيال المدبَّر لمراسلَينا أنس الشريف ومحمد قريقع والمصورَين إبراهيم ظاهر ومحمد نوفل.” وقالت إن “اغتيال مراسلَينا على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي هجوم جديد سافر ومتعمَّد على حرية الصحافة.” وحمّلت “الجزيرة” جيش الاحتلال وحكومتَه مسؤولية استهداف فريقها واغتياله. هذا واستنكرت الجرائم البشعة والمحاولات المستمرة من السلطات الإسرائيلية لإسكات صوت الحقيقة، وشددت على أن الإفلات من العقاب وعدم المحاسبة يؤمّن لإسرائيل تماديها، ويشجعها على مزيد من البطش بحق شهود الحقيقة.
ودانت نقابة الصحافيين الفلسطينيين بشدة “الجريمة البشعة باغتيال الزميلَين الصحافيَين أنس الشريف ومحمد قريقع مراسلَي قناة ‘الجزيرة‘ في مدينة غزة عَقِبَ استهداف خيمة للصحافيين في مستشفى الشفاء.” ونشرت النقابة إفادة الشريف لها بشأن التهديدات والاستهدافات الإسرائيلية منذ بداية الحرب، وقال الشريف: “منذ اندلاع الحرب سنة 2023، تعرضتُ لعشرات التهديدات من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، بدأتْ منذ الشهر الأول. وتم تنفيذ أولى هذه التهديدات عبر استهداف مباشر لمنزلي ومنزل عائلتي، وهو ما أدى إلى استشهاد والدي، ثم تكررت الاستهدافات عدة مرات بعد ذلك.”
ودان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، عملية الاغتيال بالقول: “ننظر إلى ما حدث في غزة اليوم، ولطالما كنا واضحين تماماً في إدانة جميع عمليات قتْل الصحافيين.” وأكد أن الصحافيين يجب أن يتمكنوا من أداء عملهم بحرّية من دون استهداف، “في غزة وفي كل مكان.”
وبدورها، قالت المقررة الأممية لحرية الرأي والتعبير، إيرين خان، إن “الجيش الإسرائيلي يحاول قتْل الحقيقة، لكنه لا يستطيع ذلك.” وأضافت خان، التي حذّرت مؤخراً من أن التهديدات الإسرائيلية ضد الشريف تُعَرِّضُ حياته للخطر، أن الصحافيين الذين “يكشفون فظائع إسرائيل في قطاع غزة يتم استهدافهم”، واصفة الصحافي الشهيد أنس الشريف بـ “الشجاع”، وأكدت أن عدد الذين قُتِلُوا من الصحافيين في قطاع غزة يفوق عدد مَن قُتلوا من الصحافيين في أي صراع آخر.
وقالت خان: “إسرائيل تتصرف وكأنها وحش محشور في الزاوية، وتستهدف كل مَن ينتقدها”، وأكدت ضرورة “محاسبة إسرائيل”، وإجبارها على “إدخال الإعلام الدولي إلى غزة.”
أمّا نادي الصحافة الأميركي، فقال على لسان رئيسه: “نعرب عن حزننا وانزعاجنا إزاء التقارير الواردة عن مقتل مراسل ‘الجزيرة‘ أنس الشريف في غزة”، ودعا إلى “تحقيق شامل وشفاف” في ملابسات قتْله.
وبدورها، قالت المديرة الإقليمية للجنة حماية الصحافيين إن “إسرائيل دأبت على وصف الصحافيين بالـ ‘إرهابيين‘ من دون تقديم أدلة موثوقة.” وأضافت أن “نهْج إسرائيل تجاه الصحافيين يثير أسئلة بشأن نيتها واحترامها حريةَ الصحافة.”
وأعربت لجنة حماية الصحافيين عن صدمتها من اغتيال مراسلَي قناة “الجزيرة” أنس الشريف ومحمد قريقع ومصورَيهما في هجوم إسرائيلي على خيمة للصحافيين في مدينة غزة، وَدَعَتْ إلى محاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم. كما أعربت عن قلقها إزاء وصْف إسرائيل المتكرر للصحافيين بـ “‘الإرهابيين‘ من دون تقديم أدلة موثوقة، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية بشأن نياتها”.
كما اعتبرت منظمة “مراسلون بلا حدود” أن الجيش الإسرائيلي يكرر في هجومه على الصحافيين ما وصفته بـ “عملية معروفة ومثبتة، وخصوصاً ضد صحافيي ‘الجزيرة‘”. وقالت إن المجتمع الدولي بقيادة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تَجَاهَلَ تحذيراتٍ مِنْ قُرْبِ هذا الهجوم، منددة بذلك. وطالبت المنظمة العالمَ باتخاذ إجراءات حازمة لوقف ما سمَّتْهُ عمليات إعدام إسرائيلية للصحافيين.
أمّا حكومياً، فقالت دائرة الاتصال في الرئاسة التركية إن استشهاد صحافيي “الجزيرة” في قطاع غزة عبر الاستهداف المباشر يُعَدُّ تصرُفاً إسرائيلياً همجياً، وأضافت أن إسرائيل تستهدف الصحافيين لمنْع العالم من رؤية جرائم الإبادة التي ترتكبها.
أيضاً، دانت الخارجية الإيرانية الهجوم الإسرائيلي على الصحافيين، ووصفته بالجريمة، وقالت إن “الهجوم على الصحافيين محرَّم في أي حال، واستهدافهم هو جريمة حرب.”
كذلك، قال وزير خارجية النرويج: “قَتْلُ صحافيي ‘الجزيرة‘ في غزة أمرٌ مثير للغضب وغير مقبول مطلقاً.” وأضاف: “مهاجمة الصحافيين عمداً هو اعتداء على حرية التعبير”، مُعْتَبِراً أن غزة، بعد قتْل أكثر من 200 صحافي وإعلامي فيها، صارت “أخطر مكان للصحافيين في العالم”، مُشَدِداً على ضرورة حمايتهم.
كما قال النائب المستقل في البرلمان البريطاني، جيرمي كوربن، إن قتْل الصحافيين هو محاولةٌ لطمْس حقيقة الجرائم ضد الإنسانية، وأضاف أن قتْلهم عمداً هو أمر مقزز للغاية.