لبنان بين الوهم والحقيقة

لبنان بين الوهم والحقيقة

في منطق العلاقات الدولية، لا تُفرّط الدول عادةً بأوراق قوّتها، بل تحرص على مراكمة عناصر الضغط كي تدخل أي مفاوضات من موقع متوازن. لكن في الحالة اللبنانية، المشهد يبدو معكوسًا. الدولة، بدل أن تحافظ على أوراقها وتستثمرها في حماية حقوقها، تميل إلى نزعها واحدة تلو الأخرى، وكأنها تخشى أن تملك ما يُقلق العدو الإسرائيلي.

يتجلّى هذا السلوك في ملف ترسيم الحدود البحرية، حيث بدأ لبنان التفاوض من موقع قوي بالاستناد إلى الخط 29، وهو أقوى الحجج القانونية التي تثبّت حقه بمساحات واسعة من مياهه الاقتصادية. لكن فجأة جرى التراجع، وأُسقط هذا الخط من الطاولة من دون مبررات مقنعة، ما سمح للعدو بالتحكّم بحقول الغاز في كاريش. الأمر نفسه يتكرّر في الحدود البرية، إذ إن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، التي تُعتبر حقًا مثبتًا بقرارات الأمم المتحدة، تحوّلت في الخطاب الرسمي إلى ملف خلافي “عالق”، بدل أن تُستخدم كورقة سيادية غير قابلة للتنازل. أمّا في ما يتعلّق بمعادلة الحماية، فالدولة تحاول إقناع الداخل والخارج أنّ الجيش وحده قادر على حماية الحدود والدفاع عن الوطن، بينما الواقع العسكري الميداني، واعتراف قادة الجيش أنفسهم، يوضحان أن الإمكانات محدودة، وأن ميزان الردع لم يأتِ من الدولة بل من توازن القوى على الأرض.

بهذا المعنى، الدولة اللبنانية لا تتصرّف كمن يريد تثبيت حقوقه، بل كمن يُسقط عن نفسه عمدًا أدوات التفاوض والضغط، ثم يقدّم لشعبه صورة مضخّمة عن قدرته على الدفاع عنه. والمفارقة أنّ أي دولة في العالم تعرف أنّ من يدخل المفاوضات بلا أوراق يخرج منها بخسارة مضاعفة، بينما لبنان يبدو وكأنه يسلّم أوراقه مسبقًا قبل أن يبدأ التفاوض، ليجد نفسه في نهاية المطاف مكشوفًا أمام العدو، ومكبّلًا أمام شعبه.