بواسطة ليلى عماشا | آب 26, 2025 | خاص الفيصل
ما كانت زلّة لسان، فالأميركي الذي يقرّع بعض أصحاب المناصب خلف الأبواب المغلقة إن هم قصّروا أو تأخّروا في تلبية الأوامر، هو نفسه الذي يهين الصحافيين في مؤتمر صحافيّ، وفي الحالتين يفترض أن له حقًّا بذلك، فهو بمنظوره وبمنظور البعض منهم، ليس عليه واجب الاحترام تجاه أحد. ولذلك، لم تتفاجأ أورتاغوس الواقفة جنبه بالأسلوب المهين وبالألفاظ النابية التي استخدمها بحقّ الحاضرين، بل ابتسمت برقّة مصطنعة، ونظرت ناحية الحضور بعنجهية أميركية خالصة.
المشهد بكلّ تفاصيله يختصر الكيفية التي ينظر فيها الأميركي إلى لبنان، ما عدا أهل المقاومة، فهؤلاء سادة وكرام، لا يتجرّأ على النظر إليهم بازدراء كما يفعل، بانسيابية وسلاسة، مع سواهم.
ابتلع الحاضرون الإهانة، منهم على مضض ومنهم ببهجة الدونيّ الذي يرى أنّه يستحقّها فقط لأنّ الفاعل أمريكي. وللأمانة، في اللحظات التي جرى خلالها هذا المشهد، كان بعض الصحفيين منشغلين بالتحضيرات للتغطية الإعلامية للمؤتمر فلم يسمعوا ما جرى قبيل انطلاقه، ومنهم منى طحيني، مراسلة قناة المقاومة، والتي تفاجأت بأن أحدًا من الزملاء لم يبدِ استنكارًا بحيث لم تعرف بالإهانة الأميركية إلّا بعد مغادرتها لقصر بعبدا.
الأسوأ من التحقير الذي استخدمه برّاك، كان مسارعة البعض إلى تبرير فعلته. قيل مثلًا كانت مجرّد كلمة غير مقصودة! وقيل إن الصحفيين أحدثوا فوضى ما دفعه إلى التحدّث بانفعالية، وحتّى، قيل إنّه محقّ، فالفوضى أمر مرفوض! كثرت التبريرات التي إن دلّت على شيء فعلى انعدام الكرامة في نفوس أصحابها، أو بأحسن الأحوال على معرفتهم المسبقة بأنفسهم وبالمعاملة التي يستحقونها.
ولأن المشهد كان معبّرًا جدًا، كان لا بدّ لسفارة الجمهورية الإسلامية في إيران أن تعلّق عليه، فتقارن بين الهبّات السياديّة الساخنة التي تمسّ البعض ضدّ أي تصريح إيرانيّ عادي، فيقوم وزير الخارجية القواتيّ باستدعاء السفير لمساءلته غير المبرّرة، وبين البلادة في الدفاع عن الذات الإنسانية وكرامتها حين تتعرّض لإهانة أميركية مشهودة. وهنا، يصحّ السؤال: أليس من واجب وزارة الخارجية الآن استدعاء المبعوث الأميركي ومطالبته بالإعتذار؟ كان ذلك ممكنًا لو لم تكن الوزارة مرتعًا قواتيًّا يستطيب الإهانة إن جاءت بلكنة أميركية، ويتحسّس من اللطف واللياقة إن جاءا من ناحية إيران. لا بأس!
بعد انتشار الفيديو الذي وثّق الإهانة، سارعت رئاسة الجمهورية إلى إصدار بيان اعتذار عمّا ورد على لسان أحد الضيوف الأجانب. نسي محرّر البيان أن يذكر اسم الموفد، ودوره، لا بأس أيضًا، على ألّا نجد هذا البيان متداولًا بعد سنين مع تفسير يقول إنّه صدر بعد زيارة موفد إيراني إلى القصر.
بدورها، أصدرت وزارة الإعلام بيانًا مماثلًا لتطييب خاطر الصحافيين، الذين شعروا بالإهانة. أمّا الذين لم يشعروا بها، فقد ينشرون بدورهم بيانًا يستنكر بيانات استنكارها، ويقولون فيه إنّها كانت “مزحة” مقبولة من سيّدهم برّاك، وقد يختمونه بعبارة: “نحنا حرّين، وقبلانين.. لا شأن لكم بنا”. وقد يستفيضون بالشرح فيفنّدون الأسباب الموجبة التي دفعت ببرّاك إلى توجيه الإهانة لهم، وأكثر من ذلك قد يتداعون إلى توقيع عريضة شكر له على شتمهم! فسلوكهم الخالي من أيّ أثر لكرامة شخصية أو شرف مهنيّ يجعل هذا الاحتمال واردًا وبشدّة.
ما كانت زلّة لسان، ولا عبارة انفعالية قالها ضيف ضاق ذرعًا أو غضب. هذه الكلمات التي نضحت بالازدراء وبالاحتقار وبانعدام الاحترام واللياقة، كانت الترجمة الحقيقية والواضحة للسلوك الأميركي في البلدان الخاضعة المنبطحة. كانت الترجمة الأدقّ لكيف يرى الأميركي لبنان، ونكرّر، كلّ لبنان ما عدا أهل المقاومة! فهم الندّ صاحب الشرف الرفيع، وهم القوّة التي يعرف أنّها في الحياة كما في الميدان، تؤدّبه!
بواسطة ليلى عماشا | آب 23, 2025 | خاص الفيصل
ليلى عماشا – خاص الفيصل
في مسار إثبات الكفاءة وحسن السلوك للأميركي، تجاوز نواف سلام وجوزف عون والفريق السياسي الأميركي في السلطة في لبنان امتحان إقرار الورقة الأميركية الأولى بنجاح، والآن عليهم الانتقال إلى المرحلة الثانية: إقرار الورقة الإسرائيلية، أي الأميركية الثانية، ومن بنودها تسليم ١٤ قرية من قرى الحافّة بشكلّ كلّي أو جزئي إلى العدو، ونسيانها!
لن تُسمّى هذه القرى في أدبيات “الدولة” أرضًا محتلّة أو حتى متنازعًا عليها. ستصبح بلغة ضلال هذه “الدولة” أرضًا إسرائيلية. وبالطبع، على أهلها أن يجدوا حلولًا أخرى، أرضًا أُخرى، أن يجدوا شتاتًا يسكنون فيه، وألّا يفكّروا في العودة إليها. وربّما سيكون عليهم، بأمر من سلطة الوصاية الأميركية، أن يمحوا من ذاكرتهم صور بيوتهم، ورائحة أرضهم، وكلّ أعمارهم هناك. ستكون تلك طريقة “الدولة” في مكافأة قرى الحافّة، التي قاتلت عدوّها ومنعته من تدنيس أرضها طوال ٦٦ يومًا وليلة من المعارك والمواجهات، وحين سلّمت أمرها “للدولة” ولدبلوماسية الدموع، ما اكتفى العدوّ بتدنيسها فحسب، بل طالب بضمّها إليه. و”الدولة” اللاهثة من أجل إثبات حسن نواياها للعدوّ، قدّمتها له على طبق من ذلّة!
هذا هو المشهد الذي يريده الأميركي، كبداية. فالتوسّع الإسرائيلي لن تشبعه أربع عشرة قرية، وإن كانت رمزيّتها بالذات تعنيه كثيرًا، فهي التي حطّمت غروره وعنجهية تفوّقه في المواجهات! وهي التي فرّ منها ذات تحرير تحت جنح الخيبات والظلام، بعد أن حطّمت أنف جبروته عمليات المقاومة!
بحسب ما نقل السيّد جميل السيد عبر منصة x، تسلّم الموفد الأميركي توم برّاك الردّ الإسرائيلي على “الخطوة اللبنانية” المتمثّلة بإقرار الورقة الأميركية حول نزع سلاح المقاومة، وورد فيه ترسيم الحدود مع لبنان وفقاً لعدّة شروط ومنها أن يلتزم لبنان بإعطاء “إسرائيل” الحق في البقاء داخل ١٤ قرية وإفراغها من الأهالي كلياً أو جزئياً. البلدات المطلوب ضمّها بشكل كلّيّ هي: العديسة، كفركلا، حولا، مركبا وعيتا الشعب، والبلدات التي يريد العدوّ إقامة مواقع عسكرية دائمة فيها هي: الخيام، رامية، يارون، عيترون، علما الشعب، الضهيرة، مروحين، مارون الراس و بليدا! ونُقِل عن برّاك أنّه لا حلّ سوى “تنازل الطرفين” للوصول لاتفاق يحمي من أي اعتداء مستقبلي وأنّ “إسرائيل” لن تتراجع عن الشروط التي طلبتها!
في إطار تبريره لإقرار الورقة الأميركية، كان رئيس الجمهورية جوزف عون قد قال إنّه يعتمد سياسية “خطوة بخطوة”، بمعنى أنّ هذا الإقرار بظاهره المذلّ وباطنه المهين إنّما هو تنازل ضروريّ سيؤدّي إلى خطوة إسرائيلية بالمقابل وتتمثّل بانسحاب العدوّ من النقاط الخمس ووقف اعتداءاته المتواصلة وإعادة الأسرى. ما أدَّى إليه هذا الإنبطاح التنازليّ كان العكس تمامًا: طلب احتلال رسميّ لا تملك سلطة الوصاية الأميركية أن ترفضه حتّى! وبذلك يكون حديث برّاك عن ضرورة “تنازل الطرفين” نوعًا من السخرية السوداء! الفكرة برمّتها تكمن في التساؤل عمّا يدور الآن في رأس هذه السلطة التي لا يمنحها الأميركي حتى حقّ حفظ ماء الوجه، فيفضح انبطاحها بالطريقة الأكثر إذلالًا. وبذلك، يسهّل الأميركي على المغرّر بهم السُذّج الموعودين بحلول “دبلوماسية” توقف سيل الدم واحتلال الأرض حسم أمرهم، إذ يقول لهم بوضوح تام: التنازل الأوّل سيؤدي إلى المزيد والمزيد من التنازلات، ولا حلّ يردع هذا العدوّ إلّا السّلاح.
بناء على ما تقدّم، لا يمتلك اليوم أيّ عاقل، إن وُجد، في صفوف دعاة نزع السلاح وتحاشي الصدام مع العدو حقّ افتراض حسن النيَّة. فالأمر بات أوضح من أن يحتاج شرحًا أو إثباتًا. الإسرائيلي بنفسه يقول لكم: سأنتزع ما أشاء من أرضكم، باستخدام دبلوماسيتكم هذه، وسأتَّخذ من انبطاحكم الذليل هذا جسر عبور إلى ما لم أستطع تحقيقه بالقوّة. يقول لكم إنه حان وقت استعادة هيبتي وجبروتي اللّذين كانا قد تحطّما تحت أقدام هذه القرى المقاتلة. ماذا أنتم فاعلون؟ بكلام آخر، يمعن الأميركي، بلسان “الإسرائيلي”، في إذلال سلطة الوصاية، ويضعها عارية من كلّ احتمالات الكرامة الوطنية على منصّة الذلّ على مرأى العالم كلّه، ويُشهد، من حيث لا يدري، كلّ أهل الأرض أنّ المقاومة هي السبيل الأوحد للتحرير وللعيش بكرامة!
ببساطة، يلقّن “الإسرائيلي” العالم كلّه الآن درسًا في جدوى المقاومة، وبعنجهية أعمت البصر والبصيرة، يقول الأميركي لكلّ شعوب أهل الأرض، إن كانت فرص النجاة لمن يقاومنا ضئيلة، فهي معدومة لمن ينبطح لنا!
“خطوة بخطوة” إذًا، مع مهزلة “تنازل الطرفين”، تعني ببساطة أن يستمرّ لبنان في التنازل ويستمرّ الإسرائيلي بالتوسّع.. هي سياسة ستؤدي حتمًا، إذا تواصلت، إلى لافتات شوارع باللغة العبرية في بيروت، وإلى زبائن ببزات جيش الاحتلال في المقاهي والمطاعم. خطوة بخطوة، نحو هدر كلّ الدّم العزيز الذي بُذل في هذه الأرض وكلّ التّعب الشريف الذي تراكم سنين فوق سنين من عمر الأحرار الشرفاء. “خطوة بخطوة”، نحو الهلاك المذلّ، نحو لبنان إسرائيليّ! كل ذلك كان يمكن أن يكون حقيقيًا، قابلًا للحدوث لولا المقاومة، لولا الصّدق الذي ما زال يسطع من صوت شهيدها الأسمى: “لبنان هذا لن يكون إسرائيليًا!”.
بواسطة ليلى عماشا | آب 22, 2025 | خاص الفيصل
ليلى عماشا – خاص الفيصل
لم يترك أعداء المقاومة ورقة لديهم إلّا واستخدموها في سياق حربهم الشعواء على السلاح الحامي للأرض ولكرامة الإنسان. وما عجز العدو الصهيوني وخلفه الولايات المتحدّة الأميركية عن تحقيقه بأطنان المتفجرات والمجازر المتنقلة والاغتيالات المتواصلة، بات اليوم هدفًا يبتغي تحقيقه بالسياسة من ناحية، وبالحملات الإعلامية المتتالية والمتواصلة: تحريض وتضليل وتشويه وتنميط وكذب واتهامات وعزل وتغريب. رغم ذلك، لم تلفظ الأرض المقاومة، ابنة ترابها، ولم يتخلّ أهل الشرف الرّفيع عن سلاحهم، ولن. ولذلك، يتسلّح العدوّ اليوم بخناجر الطائفية والمذهبية، في سبيل تصوير الصراع القائم على أنّه صراع طائفي أو مذهبي، وليس صراعًا نموذجيًا بين الخير كلّه والشرّ كلّه.
في الحقيقة، عجز الأميركي طوال سنوات عن تأجيج صراع مذهبي طائفيّ في لبنان، على الرغم من توظيفه للكثير من الأدوات والمسائل الفتنوية في سبيل تحقيق هذا المسعى. وفي هذا السياق كان اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري كما سلسلة الاغتيالات التي طالت شخصيات لبنانية مختلفة، بعد أن صار مفهوم “الاتهام السياسي” مسوّغًا لتصويب الاتهام نحو حزب الله بخلفيات طائفية ومذهببة. عضّ الحزب على الكثير من الجراح التي أصابته في السّاحة الداخلية اللبنانية ومنها جرح خلدة وجرح الطيونة وغيرهما، في سبيل منع الانزلاق إلى فتنة طائفية أو مذهبية يُراق بها دم الناس هدرًا ولا تخدم سوى الأميركي والإسرائيلي.
في السياق نفسه، تحمّلت المقاومة أعلى درجات التحريض ضدّها من على المنابر العاملة في خدمة الأميركي تحت مسميّات مختلفة دينية وسياسية وحتى ثقافية واجتماعية، ولم تسمح لمنابرها أن تنزلق إلى ردود وخطابات ومفردات تماثل ما يُرتكب ضدّها وضدّ أهلها ومجتمعها. وبذلك كلّه، فشلت كل محاولات “مذهبة” المقاومة رغم العمق الأيديولوجي الذي يمثّله حزب الله، وثبُت للعدوّ قبل الصديق أن بيئة المقاومة تشمل عدد كبيرًا من الأفراد المنتمين إلى مختلف التشكيلات الطائفية والمذهبية والثقافية والسياسية، تشمل كلّ قلب عرف الحقّ وكلّ عقل أدرك معنى الارتقاء الانساني والشرف الوطني.. تشمل كلّ من اختار أن يخدم في معسكر المقاومة بقلبه أو بلسانه أو بأدواته الفكرية والعملية والعلمية أو بماله.. وأن ما يجمع أفراد هذه البيئة هو الإيمان بالحقّ والالتفاف حول الكرامة الإنسانية والدفاع عن الأرض والناس، ومعاداة كلّ ما يمسّ بهذه الخطوط الأساسية التي لا يمكن المساومة عليها تحت أيّ ظرف.
إذًا، باءت محاولات مذهبة المقاومة وعزل أهلها بمعيار مذهبي وطائفي بالفشل، إذ لم ينجح الأميركي في صناعة فتنة رغم عمله الدؤوب على حصار بيئة المقاومة وعزلها باستخدام الشعارات المذهبية والطائفية الإلغائية والتحريضية. في أيلول ٢٠٢٤، حين اتسّع العدوان الإسرائيلي وتسبّب بموجة نزوح كبيرة من الجنوب والبقاع والضاحية، أدرك الأميركي ومعه أدواته أن سنين التحريض الطائفي والمذهبي وكلّ ما تخللها من مشاريع وتمويلات قد ذهبت سُدىً. فاحتضان كافة الطوائف والمذاهب والمناطق للنازحين شكّل صفعة على وجه المنابر الفتنوية التي كانت قد بُحّت أصواتها في التحريض ضد أهل المقاومة وفي محاولة عزلهم واستهدافهم بشعارات إلغائية ذات بُعد مذهبي، أو طائفيّ.
اليوم، وفيما الصراع السياسي يبلغ أوجَه بين حكومة تأتمر بالأمر الأميركي، بدون نقاش، ومجتمع يرفض أن يُذبح وأن يُجرَد من كرامته وقدرته على الدفاع عن كلّ لبنان، احتشدت المنابر الداعية للفتنة والمحرّضة مذهبيًّا وطائفيًّا ضدّ المقاومة. وبتنسيق تام فيما بينها، ركّزت على كل ما يمكن له أن يثير الغرائز الطائفية والمذهبية ضدّ المقاومة وأهلها. هذه المنابر التي لا تستحي من إنكار كل تضحيات المقاومة التي لم تكن يومًا حِكرًا على طائفة أو مذهب، ولا تخجل من الإصطفاف المذل في طابور الاستجابة للأوامر الأميركية باتت تستخدم المصطلحات والمفردات والأدبيات الأكثر تطرّفًا في التعبير عن حقدها على الفئة التي تقول لا للأميركي. الفئة التي بات تمسكها بشرفها وشرف الأرض تهمة! الفئة التي ما صوّبت يومًا بندقيّتها إلّا ناحية العدو، وتعالت في كلّ السنين عن كلّ كلام تناولها بسوء أو بتحريض.
ختامًا، ستنتهي هذه الجولة التحريضية المشتعلة كسابقاتها، ولن يحصد فاعلوها بكلّ مستوياتهم إلّا الخيبة التي اعتادوا حصادها، فالحقائق الساطعة لا تُخفى بالثرثرات، ولكن، بات من المخجل والمؤسف في آن، أن يرى المرء ويسمع، “رجالًا” تكذب على المنابر المكرّمة باسم الدين وباسم البلد.